226 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع
في ذكرى ولادةِ النبيِّ الأعظَمِ صلى الله عليه وسلم
إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ سُبحانَه وتَعالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَـيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ولا مَثيلَ لَهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ ولا أَعضاءَ ولا هيئةَ ولا صورةَ ولا شكلَ ولا مكانَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنَا وقائِدَنا وقرَّةَ أعيُنِنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه بلَّغَ الرِّسالَةَ وأدَّى الأمانَةَ ونصَحَ الأُمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنا خيرَ ما جَزَى نبيًا من أنبيائِه. اللهم صلِّ على محمدٍ صلاةً تقضِي بِها حاجاتِنا وَتُفَرِّجُ بِها كُرُباتِنا وَتَكفِينَا بِها شَرَّ أعدائِنا وسلِّمْ عليه وعلى ءالِه سلامًا كثيرًا.
أما بعد عبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُحِبُّكُمْ في اللهِ وَأُوصِيكُمْ ونفسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العظيمِ، فَواللهِ تَقْوى اللهِ مَا جَاوَرَتْ قَلْبَ امْرِئٍ إِلاَّ وَصَلَ.
يقولُ اللهُ تعالَى في مُحْكَمِ التَّنـزِيلِ:﴿لَقَدْ جَاءَكَمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ سورةُ التوبةِ / 4.
ولما ءَانَ بُروزُ حَقِيقَتِه الْمُحَمَّدِيَّة، وإِظْهَارُهُ جِسْمًا وَرُوحًا بِصُورَتِه وَمَعْنَاه، نَقَلَهُ إلى مَقَرِّهِ مِنْ صَدَفَةِ ءامِنَةَ الزّهريَّة، وَخَصَّهَا القَرِيبُ الْمُجِيبُ بِأَنْ تَكُونَ أُمًّا لِمُصْطَفَاه، وَنُودِيَ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ بِحَمْلِهَا لأَنْوارِه الذاتِيَّة، وَصَبَا كُلُّ صبٍّ لِهُبُوبِ صبَاه، وَكُسِيَتِ الأَرْضُ بَعْدَ طُولِ جَدْبِها مِنَ النَّباتِ حُلَلاً سُنْدُسِيَّة، وأَيْنَعَتِ الثِّمَارُ وَأَعْطَى الشَّجَرُ لِلْجانِي جَنَاه، وَبَشَّرَتْ هَوَاتِفُ الْجِنِّ بإِظلالِ زمَنِه، وَلَهَجَ بِخَبَرِهِ كُلُّ حَبْرٍ خَبِيرٍ وَفِي حُلا حُسْنِهِ تَاه، وَأُتِيَتْ أُمُّهُ فِي المنامِ فَقِيلَ لَهَا إِنَّكَ قَد حَمَلْتِ بِسَيِّدِ العالَمينَ وَخَيْرِ البَرِيَّةِ، فَسَمِّيهِ إِذَا وَضَعْتِهِ مُحَمَّدًا فَإِنَّهُ سَتُحْمَدُ عُقْبَاهُ.
أما شَهْرُ مَوْلِدِهِ فَهُوَ شَهْرُ رَبِيعِ الأَوَّلِ، وَأَمَّا يَوْمُ مَوْلِدِهِ مِنَ الشَّهْرِ فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ كانَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنَ الشَّهْرِ المذكورِ.
أما يَوْمُ مَوْلِدِه فَهُوَ يَوْمُ الاثنَيْنِ بِلا خِلافٍ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَن أبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ قالَ: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن صَومِ يومِ الاثنَينِ فقالَ: "ذاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ".
أما عَامُ مَوْلِدِهِ فَهُوَ عَامُ الفِيلِ، قالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ:."وُلِدَ بَعْدَ قُدومِ الفِيلِ بِشَهْرٍ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ بِخَمْسِينَ يَوْمًا".
وأما مَكَانُ مَوْلِدِهِ فالصَّحيحُ المحفُوظُ أنهُ كانَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ، وَالأَكْثَرُ أنهُ كانَ في المحلِّ المشهورِ بِسُوقِ الليل. وَيُعْرَفُ المكانُ اليَوْمَ بِمَحَلَّةِ المولِدِ.
وقد رُوِيَ أَنَّ ءامِنَةَ لَمَّا حَمَلَتْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَتْ تَقُولُ: "ما شَعَرْتُ أَنِّي حَمَلْتُ وَلا وَجَدْتُ لَهُ ثِقلاً كَمَا تَجِدُ النساءُ إِلاَّ أَنِّي أَنْكَرْتُ رَفْعَ حَيْضِي، وَأَتَانِي ءَاتٍ وَأَنَا بَيْنَ النَّوْمِ وَاليَقَظَةِ فَقَالَ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكِ حَمَلْتِ؟ فَكَأَنِّي أَقُولُ: مَا أَدْرِي فَقَالَ: إِنَّكِ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هذهِ الأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا، قَالَتْ: فَكَانَ ذلِكَ مِمَّا يَقَّنَ عندِي الحَمْلَ. فَلَمَّا دَنَتْ وِلادَتِي أَتَانِي ذَلكَ فَقَالَ: قُولِي أُعِيذُهُ بِالوَاحِدِ الصَّمَدِ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ".
قالت ءامِنَةُ فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ ربيعِ الأَولِ في اثنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خلَتْ مِنْهُ وَهِيَ ليلةُ الاثنينِ مِنَ الليَالِي البِيضِ اللاتِي ليسَ فِيهِنَّ ظَلامٌ، وَكانَ عبدُ الْمُطَّلِبِ قد خَرَجَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ هُوَ وَأَوْلادُه وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَ ءَامِنَةَ ذَكَرٌ وَلا أُنْثَى وَقَدْ أَغْلَقَ عَبْدُ المطَّلِبِ عليهَا البابَ خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ طَارِقٍ يطرقُها، قالَتْ ءَامِنَةُ: وبقِيتُ في المنْزِلِ وحيدةً إِذْ سَمِعْتُ حرَكَةً بينَ السماءِ وَالأَرضِ ورأيتُ مَلَكًا بِيَدِِهِ ثلاثَةُ أَعْلام، فَنَشَرَ الأَوَّلَ علَى مَشْرِقِ الأرضِ، والثَّانِي على مَغْرِبِها، وَالثالِثَ علَى البيتِ الحرامِ.
قالت ءامنةُ: ولَمْ يَأْخُذْنِي مَا يأخُذُ النساءَ منَ الطَّلقِ إلاَّ أنِّي أَعْرَقُ عَرَقًا شَدِيدًا كالمِسْكِ الأَذْفَرِ لَمْ أَعْهَدْهُ قبلَ ذلكَ مِنْ نَفْسِي فَشَكَوْتُ العَطَشَ فإذَا بِمَلَكٍ نَاوَلَنِي شَرْبَةً مِنَ الفِضَّةِ البَيضَاءِ فيهَا شَرَابٌ أَحْلَى مِنَ العَسَلِ وأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَزْكَى رَائِحَةً مِنَ المِسْكِ الأذفَرِ فتناولتُهَا فَشَرِبْتُهَا فأضَاءَ علَيَّ منها نُورٌ عظِيمٌ فَحِرْتُ لذلكَ، وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمالاً وَقَدِ اشْتَدَّ بيَ الطَّلْقُ، فَبَيْنَمَا أنَا كَذَلِكَ فَإِذَا أنَا بِطَائِرٍ عظِيمٍ أبيضَ قد دخلَ علَيَّ وأَمَرَّ بِجَانِبَةِ جَنَاحَيْهِ عَلَى بَطْنِي وَقَالَ: انزِلْ يا نَبِيَّ اللهِ. فأعانَنِي عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ عَلَى تَسْهِيلِ الوِلادَةِ فوَضَعْتُ الحبيبَ محمدًا.
ولما وَضَعَتْ ءامِنَةُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سارَعَتْ إِلَى طَلْعَتِه ثَلاثَةٌ مِنَ الملائكَةِ الأعلامِ مَعَ أحدِهم طَسْتٌ مِنَ الذَّهَبِ ومَعَ الثانِي إبريقٌ مِنَ الذَّهَبِ ومَعَ الثالِثِ مِنْدِيلٌ مِنَ السُّنْدُسِ الأَخْضَرِ وَغَسَّلُوهُ بِمَاءِ الرَّحِيقِ.
يا سَيِّدِي يا حَبِيبَ اللهِ:
يـا أَكْمَلَ الخَلْقِ يا مَنْ لا مُضَاهِيَ لَهُ ......يا كَامِلَ الحُسْنِ أنتَ السُّؤْلُ وَالأَرَبُ
جمَعْتَ في الحُسْنِ أَوْصَافًا كَمَا جُمِعت.......لَكَ الْمَلاحَةُ يـَا مَنْ عِشْـقُه يَجِبُ
أنتَ المـرادُ وَأَنْتَ القَصْـُد أَجْمَعُهُ......... يـَا مَنْ لَهُ كَـرَمٌ يَا مَنْ لَـهُ رُتَبُ
صـلَّى علَيْكَ إِلَهُ العَرشِ مَا طَلَعَتْ...........شَـمْسُ النَّهارِ وَمَالَ الظِّلُّ يَغْتَرِبُ
وَقدْ وُلِدَ صلى الله عليه وسلم مَكْحُولاً مَدْهُونًا مَسْرُورًا مَخْتُونًا.
ورَوَى أحْمَدُ والبيهَقِيُّ وَالطَّيَالِسِيُّ بإِسنادِهِم عن أبِي أُمَامَةَ قالَ: قيلَ يَا رَسُولَ اللهِ ما كانَ بَدْءُ أمرِكَ؟ قالَ: "دَعْوَةُ أبِي إِبْراهِيمَ، وَبُشْرَى عيسَى ابنِ مريمَ، ورَأَتْ أمِّي أنهُ خَرَجَ منهَا نُورٌ أضاءَتْ لَهُ قُصورُ الشَّامِ".
أما قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: "دعوَةُ أبِي إِبْراهِيمَ"فهوَ أنَّ إبراهيمَ عليهِ السلامُ لما بَنَى البَيْتَ دَعَا رَبَّه فقالَ: ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عليهِمْ ءاياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ سورةُ البقرةِ / 129، فاستجابَ اللهُ تعالَى دعاءَهُ في نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وجعَلَهُ الرَّسُولَ الذي سألَهُ إبراهِيمُ عليهِ السَّلامُ.
وأمّا قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ: "وبُشْرَى عيسَى ابنِ مريَمَ"فهو أن سيدَنا عيسَى عليهِ السلامُ بَشَّرَ قومَهُ بسيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم كما أخبرَ القرءانُ الكريمُ حِكايَةً عن عيسى عليهِ السلامُ: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يأتِي مِنْ بَعْدِي اسمُهُ أَحْمَدُ﴾ سورة الصف / 6.
وقد خرجَ معَهُ نورٌ أضاءَ لَهُ المشرِقُ وَالْمَغْرِبُ، يقولُ عليهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ: "رَأَتْ أُمِّي حينَ وَضَعَتْنِي سَطَعَ مِنْهَا نورٌ أَضَاءَتْ قُصورُ بُصْرَى"وَبُصْرَى هذه من مُدُنِ الشامِ القديمَةِ هي تُعَدُّ مِنْ أَرْضِ حَوْران مِمَّا يَلِي الأُرْدُنّ. أمُّهُ عليه السلامُ رأَتْ بِهذَا النُّورِ الذي خَرَجَ منهَا قُصُورَ بُصْرَى بعينِها لولا أَنَّها مُؤْمِنَةٌ مَا أُعطِيَتْ هذهِ القُوَّةَ بعينِها حتَّى تَرَى قُصُورَ بُصْرَى. وهذا الحديثُ ثابِتٌ رواهُ الحافِظُ ابنُ حجَرٍ في الأَمَالِيِّ وحسَّنَهُ فنقولُ كَمَا قالَ أبو حنيفَةَ رضِيَ اللهُ عنهُ والِدَا الرَّسولِ مَا مَاتَا كَافِرَيْنِ، مَا المانِعُ أَنْ يكونَا أُلْهِمَا الإِيمانَ بِاللهِ فَعَاشَا مُؤْمِنَيْنِ لا يَعبُدَانِ الوَثَنَ، لا مانِعَ.
والمقصُودُ أَنَّ ليلَةَ مَوْلِدِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ليلةٌ شريفَةٌ عَظِيمَةٌ مُبَارَكَةٌ، ظاهِرَةُ الأَنْوارِ، جَلِيلَةُ الْمِقْدَارِ، أَبْرَزَ اللهُ تعالَى فيهَا سَيِّدَنا مُحَمَّدَّا إلى الوُجُودِ، فولَدَتْهُ ءامِنَةُ في هذهِ الليلَةِ الشريفَةِ مِنْ نِكَاحٍ لا مِنْ سِفَاحٍ، فظَهَرَ لَهُ مِنَ الفَضْلِ وَالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ مَا بَهَرَ العُقُولَ وَالأَبْصَارَ، كمَا شَهِدَتْ بِذَلِكَ الأحادِيثُ والأخبارُ.
نحمَدُكَ اللهمَّ أَنْ أَظْهَرْتَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم ونسألُكَ رُؤيتَه وَزِيارَتَه وشفاعَتَه وأَعِدْ علينَا ذِكْرَى ولادَتِه بِالخيرِ واليُمْنِ والبَرَكاتِ.
هذا وأستَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم.
الخطبَةُ الثانِيَةُ:
إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ سُبحانَه وتَعالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلَّى اللهُ عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.
أما بعد عبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ ونفسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العظيمِ القائلِ في محكم كتابه: ﴿وافعَلُوا الخيرَ لعلَّكم تُفلِحون﴾ سورة الحج / 77. وَمِنَ الخيرِ الاحتِفَالُ بمولِدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو بِدْعَةٌ حسنَةٌ وسُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لأنَّ فيهِ إظهارَ الفرحِ والاستِبْشَارِ بمولِدِهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ وَشُكْرِ اللهِ تعالَى علَى هذهِ النعمَةِ العظيمَةِ ففِي هذه الذكرَى الشريفَةِ المبارَكَةِ يَكْثُرُ الإحسانُ والعَطَاءُ وَيَجْتَمِعُ المسلمونَ وَيَتْلُونَ السِّيرَةَ الشريفَةَ وَيَذْكُرونَ اللهَ تعالَى كَثِيرًا وَكُلُّ ذلكَ مُوافِقٌ للدينِ. وأما مَا رُوِيَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: "إيَّاكُم ومُحدثَاتِ الأُمورِ فإنَّ كلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُل بِدعَةٍ ضَلالَةٌ".
فَمُحْدَثَاتُ الأُمورِ التي ذَمَّها رسولُ اللهِ ما أُحْدِثَ على خِلافِ الكِتَابِ (أي القرءَانِ) والسنَّةِ (أي الحديثِ) وَالإِجْمَاعِ (أي إِجماعِ المجتَهِدِينَ من أمةِ محمَّدٍ) والأَثَرِ (وَهُو كَلامُ الصحابَةِ)، هذهِ هي بدعةُ الضلالةِ التي يقولُ عنهَا رَسولُ اللهِ: "وكل بدعةٍ ضلالةٌ".وأما الأُمورُ التي أُحدِثَتْ على وِفَاقِ القُرءانِ والحديثِ والإِجماعِ والأَثرِ فلَيْسَتْ بدعَةَ ضلالَةٍ بل هي السُّـنَّةُ الحسنَةُ التي عَنَاهَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَولِه: "مَنْ سَنَّ في الإِسلامِ سُـنَّةً حَسَنَةً كانَ لَهُ أجرُها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أُجورِهِمْ شَىءٌ"رواهُ مسلمٌ.
واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ {إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا} اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيُّها الناسُ اتَّقـوا رَبَّكـُم إنَّ زلزَلَةَ الساعَةِ شَىءٌ عَظِيمٌ يومَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملَها وَتَرَى الناسَ سُكارَى ومَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ﴾، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فبجاه محمّد استجبْ لنا دعاءَنا ، اللهم بجاه محمّد اغفرِ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ.
عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.
الشِّتَاءُ بُسْتَانُ الطَّاعَةِ وَمِيدَانُ العِبَادَة
الشِّتَاءُ رَبِيعُ المؤمِن
الحمدُ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ، العَزِيزِ الغَفَّارِ، مُكَوِّرِ الليلِ عَلَى النَّهارِ، تَبْصِرَةً لأُولِي القُلُوبِ والأَبْصَار، أَحْمَدُهُ سبحانَهُ رَبِّ المشرِقَيْنِ وَرَبِّ المغرِبَيْنِ، الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكرُه ونستغفرُه ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ ومَنْ يُضللْ فلا هادِيَ لهُ.
وأشهدُ أن لا إِلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، ولا مثيلَ لَهُ، ولا ضدَّ ولا ندَّ لَهُ، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا وحبيبَنَا وعظيمَنا وقائِدَنَا وَقُرَّةَ أعيُنِنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وصَفِيُّهُ وَحَبِيبُهُ صلَّى اللهُ وسلَّمَ على سَيِّدِنا محمَّدٍ وعلَى كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ.
أما بَعْدُ عبادَ اللهِ أوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ القَائِلِ في كِتَابِهِ الكَريمِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ سورة فصلت/30-31-32.
إِخْوَةَ الإِيمان: الكَيِّسُ مَنْ خَافَ رَبَّهُ وَدَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الموت، الذِي لازَمَ الشَّرْعَ بِأَمْرِ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ، وَحَفِظَ قَلْبَهُ مِنْ نِسْيانِ ذِكْرِ اللهِ وَبَادَرَ دَائِمًا بِالسُّرْعَةِ للعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ كَسَلٍ وَلا مَلَلٍ.
وسيَكونُ كلامُنَا في هذهِ الخُطْبَةِ عَنِ العِبَادَةِ في الشِّتَاءِ، وَالكَلامُ عَنِ الأَمْرِ يَطُولُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الشِّتَاءُ فَخَرَجْنَا بِغَنِيمَةِ العَابِدينَ وَرَبِيعِ المؤمِنِين، كُنَّا مِنَ الفَائِزِينَ بِإِذْنِ اللهِ. وقد رَوَى التِّرمِذِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ عَامِرِ بِنِ مَسعودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ: "الغنيمَةُ البَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ".
وكانَ أبو هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنهُ يقولُ: "أَلا أَدُلُّكُمْ علَى الغنيمَةِ البَارِدَةِ، قَالُوا: بَلَى، فَيَقُولُ: الصِّيامُ فِي الشِّتَاءِ".
ومعنَى الغَنِيمَةِ البَارِدَةِ: أي السَّهْلَة، ولأنَّ حرارَةَ العَطَشِ لا تَنَالُ الصَّائِمَ فيهِ.
وقالَ ابنُ رَجَبٍ الحنبَلِيُّ: "قِيَامُ لَيْلِ الشِّتَاءِ يَعْدِلُ صِيامَ نَهارِ الصَّيْفِ".
وثبتَ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضيَ الله عنه أنه قالَ: "الشِّتَاءُ غَنِيمَةُ العَابِدِينَ" رواهُ أَبُو نُعَيْم بِإِسنادٍ صحيحٍ.
وأخرَجَ الإمامُ أحمَدُ عن أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضيَ اللهُ عنهُ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ: "الشِّتاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ"، وأخرَجَهُ البيهقيُّ، وَزَادَ فيهِ: "طَالَ لَيْلُهُ فقامَهُ، وَقَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ".
فَكَيْفَ يَسْتَغِلُ المسلِمُ لَيلَ وَنَهَارَ الشِّتاءِ؟
وَإِنَّما كانَ الشِّتَاءُ ربيعَ المؤمِنِ لأنهُ يَرْتَعُ فيهِ في بَساتِينِ الطَّاعَاتِ، وَيَسْرَحُ فيهِ فِي مَيادِينِ العِبَادَات، وَينَزهُ قلبَهُ في بَسَاتينِ الطاعَاتِ المُيَسَّرَةِ فيهِ، فَإِنَّ المؤمِنَ يَقْدِرُ فِي الشِّتَاءِ عَلَى صِيامِ نَهَارِهِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَلا كُلْفَةٍ تَحْصُلُ لَهُ مِنْ جُوعٍ ولا عَطَش، فَإِنَّ نَهَارَهُ قَصِيرٌ بَارِد، فَلا يَحُسُّ فيهِ بِمَشَقَّةٍ كبيرَةٍ لِلصيامِ. وقَدْ أَكَّدَ الصحابَةُ رضوانُ اللهِ عليهم على ذلكَ، وَكانوا يَعْتَنُونَ بِالشِّتاءِ وَيُرَحِّبُونَ بِقُدُومِهِ وَيَفْرَحُونَ بذلكَ وَيَحُثُّونَ النَّاسَ على اغْتِنَامِهِ.
فعنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: "مَرْحَبَا بِالشِّتَاءِ، تَنْزِلُ فيهِ البَرَكَةُ وَيَطُولُ فيهِ الليلُ لِلْقِيَامِ، ويَقْصرُ فيهِ النَّهَارُ لِلصِّيَام".
وللهِ دَرُّ الحَسَنِ البصْرِيِّ مِنْ قَائِلٍ: "نِعْمَ زَمَانُ المؤمِنِ الشِّتَاءُ ليلُهُ طويلٌ يَقُومُهُ، وَنَهَارُهُ قَصِيرٌ يَصُومُهُ".
وكانَ أَحَدُ الصَّالِحينَ إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ يقولُ: "يَا أهلَ القُرْءَانِ، طَالَ لَيلُكُمْ لِقِرَاءَتِكُمْ فَاقْرَؤُوا، وَقَصرَ النَّهارُ لِصِيامِكُمْ فَصُومُوا".
فَإِذَا لَمْ نَصُمْ صِيَامَ داودَ، أَفَلا نَصُومُ الاثنينَ والخميسَ؟ وإذَا لَمْ نَصُم الاثنينَ والخميسَ، أفلا نَصُومُ الأيَّامَ البيضَ؟ وهي الثَّالِثَ عَشَرَ والرَّابعَ عَشَرَ وَالخَامِسَ عَشَرَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَمَرِيٍّ!.
أحبابَنَا الكِرَام: فرصَةٌ ذَهَبِيَّةٌ لِلْمُشْتَغِلِ الذِي يَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَغَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ لَهُ، وَلِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاء، أو مَنْ عَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ فَلْيَغْتَنِمُوا جميعًا هذه الغَنِيمَةَ البَارِدَةَ.
وأَمَّا قيامُ لَيْلِ الشِّتَاءِ فَلِطُولِهِ، فَفِيهِ قَدْ تَأْخُذُ النَّفْسُ حَظَّهَا مِنَ النَّوْمِ، ثُمَّ تَقُومُ بعدَ ذلكَ إلَى الصَّلاةِ، فَيقَرَأُ المُصَلِّي وِرْدَهُ، وَقَدْ أَخَذَتْ نَفْسُهُ حَظَّهَا الْمُحْتَاجَةَ إليهِ منَ النَّومِ، معَ إِدْرَاكِ وِرْدِهِ، فَيَكمُلُ لهُ مصلَحَةُ دينِهِ وَرَاحَةُ بَدَنِه. وقد جاءَ عنِ الحسنِ البصريِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى قالَ: "نِعْمَ نَدْمَانُ المؤمِنِ الشِّتَاءُ، لَيْلُهُ طَوِيلٌ يِقُومُه، وَنَهَارُهُ قَصِيرٌ يَصُومُه".
إنَّ الشِّتَاءَ أَمْرُهُ عَجِيبٌ لِمَنْ تَذَوَّقَ فيهِ طَعْمَ العِبَادَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالَى مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ الليلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ سورة الذاريات/17.
الْهُجُوعُ : النَّوْمُ لَيْلاً.
وقَدْ وَرَدَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَكَى عِنْدَ مَشْهَدِ الاحْتِضَارِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَجْزَعُ مِنَ الْمَوْتِ وَتَبْكِي ؟! فقَالَ: "مالِي لا أَبْكِي، وَمَنْ أَحَقُّ بِذلكَ مِنِّي ؟ واللهِ مَا أَبْكِي جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ، وَلا حِرْصًا عَلَى دُنْيَاكُمْ، وَلَكِنِّي أَبْكِي عَلَى ظَمَإِ الهَوَاجِرِ وَقِيَامِ لَيْلِ الشِّتَاءِ".
وليسَ هَذَا بِغَرِيبٍ، فَإِنَّ لِلْعِبَادَةِ لَذَّةً، مَنْ فَقَدَهَا فَهُوَ مَحْرُوم. قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهب: "كُلُّ مَلْذُوذٍ إِنَّمَا لَهُ لَذَّةٌ وَاحِدَةٌ، إِلاَّ العِبَادَةَ فَإِنَّ لَهَا ثَلاثَ لَذَّاتٍ: إِذَا كُنْتَ فِيهَا، وَإِذَا تَذَكَّرْتَهَا، وَإِذَا أُعطِيتَ ثوابَها".
وكانَ أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقْسِمُ ليلَهُ ثَلاثَةَ أَقْسَام بينَ القِيَامِ وَالنَّومِ وَطَلَبِ العِلمِ، وَكانَ يَقُولُ: "جَزَّأْتُ الليلَ ثَلاثَةَ أَجْزاء: ثُلُثًا أُصَلِّي، وَثُلُثًا أنَامُ، وَثُلُثًا أَذْكُرُ فيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم".
وقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قالَ:
إِذَا كُنْتَ تَأْذَى بِحَرِّ المصيفِ
وَيُلْهِيكَ حُسْنُ زَمَانِ الرَّبِيعِ
وَيُبْسِ الخريفِ وَبَرْدِ الشِّتَا
فأَخْذُكَ لِلْعِلْمِ قُلْ لِي مَتَى
وَإِنَّمَا الأَيَّامُ مَراحِلُ يَقْطَعُهَا المسلِمُ مَرْحَلَةً مرحلَةً، وَأَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ أَخَذَ مِنْ كُلِّ مَرْحَلَةٍ زَادًا للآخِرَةِ.
نسألُ اللهَ تعالَى أَنْ يَرْزُقَنَا الهِمَّةَ عَلَى الطَّاعَة، وَيَرْزُقَنَا الإِخْلاصَ والقَبُولَ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى إِنَّهُ سَمِيعٌ مٌجِيبٌ. هذَا وأستغفرُ اللهَ لي ولَكُمْ
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ لهُ والصلاةُ والسلامُ على محمدِ بنِ عبدِ اللهِ وعلَى ءالِه وصحبِه ومَنْ وَالاهُ.
عبادَ اللهِ أُوصِيْ نفسِيَ وإيّاكمْ بتقْوَى اللهِ العَليّ العظيمِ.
لا شَكَّ إِخْوَةَ الإِيمَانِ أنَّ هناكَ فَرَائِضَ يَجِبُ عَلَى المسلِمِ البَالِغِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا، لذَلِكَ احرِصُوا عَلَى أَدَاءِ الفَرَائِضِ، وَاحْرِصُوا عَلَى حُضُورِ مَجَالِسِ الخيرِ مَجَالِسِ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ التِي تُقَامُ في مُصَلِّيَاتِنا. وَأَكثِرُوا مِنَ اغْتِنَامِ الفُرَصِ لِلطَّاعاتِ، فَوَاللهِ الوَاحِدُ مِنَّا يَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّاجِينَ فِي الآخِرَة، وَهُوَ لا يَقْوَى عَلَى جَمْرَةٍ مِنْ جَمَرَاتِ الدُّنيا، فَكَيْفَ يَقْوَى عَلَى نَارٍ وَقُودُها النَّاسُ وَالحِجَارَةُ؟ اللهمَّ أَجِرْنَا مِنها يا رَبَّ العالَمِين. فَوِقَايَةُ النَّفسِ وَالأَهْلِ مِنْ هَذِهِ النَّارِ تَكُونُ بِأَدَاءِ مَا أَوْجَبَ اللهُ علَيْنَا واجتِنَابِ مَا حَرَّمَ.
واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾. اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ. اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا، فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنّا شَرَّ ما نتخوَّفُ.
عبادَ اللهِ، إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ واستَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا. وَأَقِمِ الصلاةَ.
اَلتَّحْذِيرُ مِنَ الزِّنَا وَمُقَدِّماتِه
إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ سُبحانَه وتَعالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ولا مَثيلَ لَهُ خَلقَ السماواتِ والأرضَ وجعَلَ الظلماتِ والنورَ، خلقَ الشمسَ والقَمَرَ، خلقَ الملائكةَ والجنَّ والبشرَ، فأَنَّى يُشْبِهُ الخالقُ مخلوقَهُ يستحيلُ أن يُشبِهَ الخالقُ مخلوقَه، وأشهدُ أنَّ سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنَا وقائِدَنا وقرَّةَ أعيُنِنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه بلَّغَ الرِّسالَةَ وأدَّى الأمانَةَ ونصَحَ الأُمَّةَ فجزاهُ اللهُ عنا خيرَ ما جَزَى نبيًا من أنبيائِه. الصلاةُ والسلامُ عليك يا سيدِي يا علمَ الهدَى يا مُعَلِّمَ الناسِ الخيرَ يا أبَا الزَّهراءِ يا محمد.
أما بعدُ عبادَ الله، فإني أوصيكم ونفسِي بتقوَى اللهِ العليِّ القديرِ القائِلِ في مُحكَمِ كتابِه: ﴿إنَّ لِلمُتَّقينَ عندَ ربِّهم جَنَّاتِ النَّعيم﴾ سورة القلم / 34.
﴿إنَّ للمتقينَ﴾ المؤمنينَ باللهِ ورسولِه والمجتَنِبينَ لِلشِّركِ وسائِرِ أنواعِ الكُفرِ.
﴿إنَّ لِلمُتَّقينَ عندَ ربِّهم جَنَّاتِ النَّعيم﴾ والتقيُّ هو الذِي أدَّى ما فَرَضَهُ اللهُ واجتَنَبَ مَا حرَّمَهُ اللهُ فهؤلاءِ المتَّقونَ لَهُمْ عندَ رَبِّهم في الآخرَةِ جنَّاتُ النعيمِ أيِ النعيمُ الذِي لا يَشُوبُه ما يُنَغِّصُهُ. واسمَعُوا مَعِي قولَ اللهِ تعالَى الشكورِ في كتابِه الكريم: ﴿إنَّ الذينَ ءامنُوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أجرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ سورة الكهف / 30. فكَمْ هو عظيمٌ أن تَخْتَارَ العَمَلَ الصالِحَ وتبتَعِدَ عنِ القَبيحِ فَكَمْ هُوَ عَظِيمٌ أن تُقْبِلَ إلى الطاعَةِ وتبتَعِدَ عنِ الحرامِ فَكَمْ هُوَ عَظِيمٌ أَنْ تكونَ في رَكبِ الصَّالِحينَ وَبِرِفْقَةِ الطائِعينَ وتبتعِدَ عن رفقةِ السوءِ وصُحْبَةِ المفسدينَ وقد قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم: "إنَّ اللهَ كتبَ عَلَى ابنِ ءادَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذلكَ لا مَحَالةَ فالعَيْنُ تزنِي وَزِنَاها النَّظرُ واليدُ تزنِي وَزِنَاهَا اللمسُ والرِّجلُ تزنِي وَزِنَاهَا الخُطَى واللسانُ يزنِي وَزِنَاهُ المنطِقُ والفمُ يزنِي وَزناهُ القُبَلُ والنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلكَ أَوْ يُكَذِّبُه".
ولا شكَّ أنَّ هذا لا ينطبقُ علَى الأَنبياءِ والمرسلينَ لأنَّ اللهَ عَصَمَهُمْ فلَيْسَ للشيطانِ عليهِمْ سَبِيل.
"فالعَينُ تزنِي وزنَاها النَّظرُ" فالنظرُ إلى وجهِ الأَجنبِيَّةِ أي غيرَ الْمَحْرَمِ وكفَّيْها إِنْ كانَ بشهوَةٍ فحرَامُ أمَّا إِنْ كانَ بِغيرِ شهوةٍ فلَيْسَ حَرامًا، أمَّا النظرُ إلَى غيرِ الوجهِ وَالكَفَّيْنِ فهُوَ حرامٌ مُطلقًا أي إن كانَ بشهوَةٍ أو بغيرِ شهوَة.
وكذلك لَمسُ المرأةِ الأجنبيةِ مِنْ غيرِ حائِلٍ حرامٌ مطلقًا سَواءٌ كانَ بِلَذَّةٍ أو بغيرِ لذةٍ وهذا معنَى قولِه عليهِ الصلاةُ والسلام: "واليدُ تزني وزِناها اللمسُ".
"والرِّجلُ تزنِي وزِناها الْخُطَى" فالَّسْيرُ للنظرِ المحرَّمِ أو الملامَسةِ المحرمةِ أو نحوِ ذلكَ مِنَ المحرَّماتِ يُقالُ لهُ زِنَا الرِّجْلِ.
"واللسانُ يزني وزناهُ الْمَنْطِقُ" فما معنَى زِنا اللسانِ إخوةَ الإيمان، معناهُ الكلامُ الذي يحصُلُ بهِ التلذُّذُ بالأجنبيةِ هذا يُقالُ لَهُ زنا اللسانِ فحديثُ الرجلِ معَ المرأةِ الأجنبيةِ على وَجهِ التَّلَذُّذِ ولو مَعَ خطيبتِه التِي لَمْ يَعْقِدْ عليها النكاحَ بعدُ هُوَ حَرامٌ.
"والفَمُ يزني وزِناهُ القُبَلُ" معناهُ من معاصي الفَمِ تَقْبِيلُ الرجلِ المرأةَ الأجنَبيةَ. وأما معنَى قولِه صلى الله عليه وسلم "والنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلكَ أَوْ يُكَذِّبُه" معناهُ إِنْ أَجْرَى في نفسِه تَخَيَّلَ أَنَّهُ يتلذَّذُ بِها كَأَنَّهُ الآنَ يُقَبِّلُها أو نحو ذلكَ فَهَذَا حَرامٌ وهذا يُسَمَّى زِنَا القَلبِ أما مُجَرَّدُ أنْ يَخْطُرَ في قلبِه شَىءٌ من ذلكَ بِدُونِ إِرَادَةٍ منهُ ثُمَّ يَصرفُ ذلك عن نَفْسِهِ فليسَ حَرامًا.
فاحذرُوا إِخوَةَ الإِيمانِ رَحِمَكُمُ اللهُ تعالَى مِمَّا حَذَّرَ منهُ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم واعلموا أنَّ تسميَةَ النبيِّ لزِنا العينِ وَزِنَا اليَدِ وَزِنَا الرِّجلِ زِنًا معناهُ أنَّ هذا مقدماتٌ للزِّنا وَلَمَّا قالَ: "وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك أو يُكذِّبُه" معناهُ أنَّ الزنا الحقيقيَّ والذي هو مِنْ أكبرِ الكبائِرِ والعياذُ باللهِ تعالَى يَحْصُلُ بالفرجِ. واعلموا أنَّ مَنِ ابتلاهُ اللهُ يجبُ عليهِ التوبَةُ فورًا وينبغِي لَهُ أن يَسْـتُرَ على نفسِه ولا يُجَاهِر بِما فَعَلَ مِنَ الفُسوقِ أمامَ أصحابِه وأمامَ الناسِ يَقُولُ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتُلِيَ بِشَىْءٍ مِنْ هذهِ القَاذُوراتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ" رواهُ الإمامُ مالكٌ في الْمُوَطَّأِ.
يقولُ اللهُ تعالَى في القُرءانِ العَظِيمِ: ﴿إنَّ الذينَ ءامنُوا وعملُوا الصالِحَاتِ إنَّا لا نُضيعُ أجرَ منْ أحسنَ عمَلا. أولئكَ لهمْ جناتُ عدنٍ تجرِي من تحتِهم الأنهارُ يحلونَ فيهَا منْ أساورَ منْ ذهبٍ ويلبسونَ ثيابًا خضرًا من سُندسٍ وإستبرقٍ متكئينَ فيهَا على الأرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وحَسُنَتْ مُرْتَفَقَا﴾ سورة الكهف / 31.
اللهمَّ إنَّا نسألُكَ الجنةَ وما قربَ إليهَا من قولٍ أو عملٍ ونعوذُ بكَ من النارِ يا ربَّ العَالمينَ.
الخطبة الثانية:
إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ سُبحانَه وتَعالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلَّى اللهُ عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.
أما بعد عبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ ونفسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العظيمِ. واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾ اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيُّها الناسُ اتَّقـوا رَبَّكـُم إنَّ زلزَلَةَ الساعَةِ شَىءٌ عَظِيمٌ يومَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملَها وَتَرَى الناسَ سُكارَى ومَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ﴾، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فبجاه محمّد استجبْ لنا دعاءَنا، اللهم بجاه محمّد اغفرِ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريـك ولا شبيه ولا مثيل له،
فيا عجبا كيف يُعصى الإلهُ أم كيفَ يجحده الجاحدُ
وفي كـلِّ تحريكةٍ ءايـةٌ وفي كلِّ تسكينةٍ شاهـدُ
وفي كـلِّ شيءٍ له ءايـةٌ تَدلُّ على أنـه واحـدُ
هو الله الواحدُ الأحد الأول القديم الذي لا بدايةَ لوجوده، خلقَ العالمَ بأسرِه العلويَّ والسفليَّ والعرشَ والكرسيَّ والسماواتِ والأرضَ وما فيهما وما بينهما، فلا يحتاج ربُّنا لا للعرشِ ولا للكرسيِّ ولا للسماوات ولا للأرض هو غنيٌّ عن العالمين ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير. وأشهد أنّ سيدَنا وعظيمَنا وقائدنا وقرةَ أعيننا محمّدًا عبدُه ورسولُه وصفيه وخليله، بلَّغ الرسالةَ وأدى الأمانةَ ونصح الأمة فجزاه الله عنا خيرَ ما جزى نبيا من أنبيائه، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد أصفى الأصفياء وأوفى الأوفياء وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي القدير القائل في محكم كتابه:" وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ". 65- 66 سورة النحل.
إخوة الإيمان، كم هو عظيمٌ أن نتفكّرَ في مخلوقاتِ الله فإنّ هذا يدلُّ على عظيمِ قدرةِ الله سبحانه وتعالى، فالله عزَّ وجلَّ هو الذي أنزل لنا من السماءِ ماءً أحيا به الأرضَ بعد موتها فصارت خضراءَ بعد أن كانت جدباء، إن في ذلك لآيةً لقومٍ يسمعون، يسمعونَ سماع إنصافٍ وتدبّر، لأنَّ منْ لم يسمعْ بقلبِه فكأنه لا يسمع. وجعلَ لنا في الأنعام عبرةً يُسقينا مما في بطونها، والأنعام أيها الإخوة هي الإبِلُ والبقر والغنم، يُسقينا ربُّنا تبارك وتعالى، القادرُ على كلِّ شيءٍ، مما في بطون هذه الأنعام لبنًا أي حليبا من بين فَرْثٍ ودم، وهنا تأمّل معي أخي المؤمنَ واسمعْ جيّدا واخشع في قلبك لله العزيز الجبار، فالفَرْثُ هو ما في الكَرِشِ، والحليبُ الذي يخرجُ من بطونِ الأنعامِ لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، من أينَ يخرج؟ يخرج من بين الفرْثِ والدمِ الّذَيْنِ يُحيطانِ به، وبين هذا الحليبِ وبين الفرث والدمِ بَرْزَخٌ، والبرزَخُ هو الحاجزُ بين الشيئينِ، لا يَبْغِي أحدُهما على الآخر، أي لا يتعدَّى أحدُهما على اللبن، لا يتعدى الفرثُ ولا الدمُ على اللبنِ لا بلونٍ ولا بطعمٍ ولا برائحة، بل هو خالصٌ من ذلك كلِّه، فسبحان الله العظيم.
"وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ". فإذا أكَلَتِ البهيمةُ العلفَ فاستقرّ في كَرِشِها، طَبَخَتْهُ فكانَ أسفلُه فَرْثًا وأوسطُهُ لبنًا وأعلاه دمًا كلُّها متصلةٌ ولا تختلط، الله سبحانه تعالى يحجز هذا عن هذا، والكبِدُ مُسلطةٌ على هذه الأصنافِ الثلاثة، تُقَسِّمُها فيجري الدمُ في العروق، واللبنُ في الضُّروعِ ويبقى الفَرْثُ في الكرِشِ ينحدرُ، وفي ذلك عبرةٌ لمن يعتبر، فخُذوا العبرةَ يا أصحابَ العقول تشربون لبنًا خرجَ من بطونِ الأنعامِ التي لا تَعقِلُ، وقد اكتَنَفَهُ أي أحاطَه الفرثُ والدم، ولكنَّ الفرثَ والدمَ لم يختلطا باللبنِ الذي خرجَ شرابا سائغا سَهلَ المرور في الحلْق، والله تعالى جعلَ لنا فيه شفاء، كيفَ لا وقد أخبر الصادقُ والمصدوق صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف:" عليكُم بألبانِ الإِبِلِ والبقرِ فإنها تَرُمُّ مِنَ الشَّجَرِ كُلِّهِ وهو دواءٌ مِن كلِّ داء" رواه ابنُ عساكرَ وصحّحه السيوطيّ، تَرُمُّ أي تأخذُه بشَفَتِها أي كنايةً عن الأكلِ، وجاء في الحديث أيضا:" إنّ في أبوالِ الإبِلِ وألبانِها شفاءً للذَّرِبَةِ بطونُهم" أي الذين فَسَدتْ بطونُهُم.
إخوة الإيمان، إن في خطبتِنا هذه بغيةً ومرادا ألا وهو حثُّكُم على التفكرِ بمخلوقات الله، فكثيرٌ من الناسِ عندما يشربون اللبنَ الخارجَ من الأنعامِ، أي الحليب، لا يخطُرُ في بالهم، لا أينَ كانَ ولا كيف كان، ولا كيف خرج، بل همُّهم إشباعُ شهوةِ بطونِهِم بل ولا يشكرونَ الله على هذه النعمةِ العظيمة التي جعلَ الله لنا فيها شفاءً.
وهنا فائدةٌ جليلةٌ أحُثُّكم على العملِ بها، فقد روى أبو داودَ في سُننه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا أكلَ أحدُكم طعامًا فَلْيَقُل: اللهم بارك لنا فيه، وأطعِمنا خيرا منه، وإذا سُقِيَ لبنا فَلْيَقُل اللهم بارك لنا فيه وَزِدْنا منه"، الحديث.
أما أنت أخي المؤمنَ بعد هذه الخُطبةِ تفكّر في مخلوقاتِ الله في الحليب الخارجِ من بطونِ الأنعام، وفي المطرِ النازلِ منَ السماء، وفي السمكِ الذي في البحار، وفي مجرى الأنهار، ورائحةِ الأزهار، تَفكّر في نفسِك، فأنت دليلٌ على كمالِ قدرة الله.
فيا عجبا كيف يُعصى الإلهُ أم كيفَ يجحده الجاحدُ
وفي كـلِّ تحريكةٍ ءايـةٌ وفي كلِّ تسكينةٍ شاهـدُ
وفي كـلِّ شيءٍ له ءايـةٌ تَدلُّ على أنـه واحـدُ
ربِّ إني أسألُكَ الثباتَ على أفضلِ وأعظمِ نعمةٍ، نعمةِ الإيمان، والثباتَ على دينِ الإسلام، إنكَ على كلِّ شيءٍ قدير. هذا وأستغفر الله لي ولكم