145 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريـك له وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله من بعثه الله رحمة للعالمين هاديا ومبشرا ونذيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا من أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله.
أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ العظيم، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز:" إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ". سورة نوح الآية 1.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأناسٍ مِنَ اليهودِ وقد صامُوا يومَ عاشوراء فقالوا: هذا اليوم الذي نَـجَّى الله فيه موسى وبني إسرائيلَ منَ الغرق، وغرقَ فيه فرعون، وهذا اليوم استقرتْ فيه السفينةُ على الجوديِّ فصامَه نوحٌ وموسى شُكرا لله عز وجل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنا أحقُّ بموسى وأحقُّ بصومِ هذا اليوم" رواه أحمد في مسنده.
واليومَ إخوةَ الإيمان سنقِفُ بإذنِ الله تعالى عند محطّةٍ أخرى من محطاتِ العاشرِ من المحرّم لنتعلم منها العِبَرَ والعظاتِ والدروس، ألا وهي قصة سيدِنا نوحٍ عليه السلام، وما جرى على الكافرين الذين رفضوا الإيمانَ وأصرُّوا على الكفرِ منَ العذابِ والهلاك.
إخوة الإيمان والإسلام، وكما تعلمون فإنَّ الله تبارك وتعالى بعثَ الأنبياءَ مُبشرين ومنذرين لِيُبلِّغوا الناسَ مصالحَ دينِهم ودنياهُم فكانوا جميعا على دينِ الإسلامِ العظيم، وأولُ الأنبياءِ ءادمُ عليه السلام ثم ابنُه شيث ثم إدريس وكان البشرُ في زمانهم على الإسلام،لم يكنْ بينهم كافرٌ وإنما حدثَ الشركُ والكفرُ بالله تعالى بعدَ وفاةِ إدريسَ عليه السلام فقد كان من بين أتباعِه خمسةُ رجالٍ مسلمين صالحين يُقال لهم: وَدٌّ وسُواعٌ ويَغُوثُ ويَعُوقُ ونَسْر، وكان الناسُ يحبونهم كثيرا، فلما ماتوا ظهرَ إبليسُ لعنةُ اللهِ عليه للناسِ بصورةِ إنسانٍ ليفتنَهم عن دينِ الإسلام وأمرَهم أن يعمَلوا تماثيلَ لهؤلاءِ الرجالِ الخمسةِ ثم لما طالتِ الأيامُ ظهرَ لهم مرةً أُخرى في وقتٍ كثُرَ فيه الجهلُ والفسادُ في الأرضِ وأمرهم أن يعبدوا هذه التماثيلَ (الأصنام) الخمسةَ فأطاعُوه وعبدوهُم واتخذوهُم ءالهةً من دونِ الله فصاروا كافرين مشركين، فأرسلَ اللهُ سيدَنا نوحًا عليه السلام إلى هؤلاء الكفارِ فصار يدعوهم بالليلِ والنهارِ والسِّرِّ والإجهارِ، بالترغيبِ تارةً والترهيبِ تارةً أُخرى وظلَّ هكذا ألفًا إلا خمسينَ سنةً لكنّ أكثرَهم لم يؤمنْ بلِ استمرُّوا على الضلالِ والطغيان ونصبوا له العداوةَ وكانوا يستهزئونَ به ويؤذونه ويَضربونه ولا يتركونَه حتى يُغشَى عليه مِن شدةِ الضربِ فيظنونَ أنه ماتَ ثم يعافيه اللهُ فيعود إليهم ليدعوهم إلى الإيمان من غير كلل ولا ملل.
ثم إن الله أوحى إليه أنه سيرسلُ على الأرضِ طوفانا عظيما سَيُغرِقُ المشركين وأمرَه أن يصنعَ السفينةَ فأقبلَ على عملِ السفينة (فصنعَها من شجرةٍ نبتتْ يومَ وُلِدَ وكانَ طولُها نحوَ ثلاثمِائةِ ذراعٍ وعرضُها نحوَ ثمانين). وجعلَ قومُه يمرونَ به وهو في عملِه ويسخَرون منه وكانوا لا يعرفونَ السفنَ قبلَ ذلك ويقولون: يا نوح قد صِرتَ نجارا بعدَ النبوة؟ فلمَّا فرغَ من عملِه وجاءَ أمرُ اللهِ صعِدَ نوحٌ إلى السفينةِ ومعه كلُّ مَن ءامنَ مِن قومِه ومِن جملتِهم أولادُه الثلاثةُ سام وحام ويافث وزوجاتُهم، أما ولدُه الرابعُ كنعان فكانَ منَ الكافرينَ فدعاه إلى الإيمانِ وأن يصعدَ معهم السفينةَ فأبى. " قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء" فردَّ عليه والدُه:" قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ" سورة هود/43.
وأخذَ نوح معه في السفينةِ منَ البهائمِ والطيورِ منْ كلِّ نوعٍ ذكرا وأنثى ثم أمرَ اللهُ الأرضَ أن تُنْبِعَ ماءَها فنبعَ الماءُ منْ جميعِ فجاجِها مدةَ أربعينَ يومًا ثم نزلَ المطرُ منَ السماءِ أربعينَ يوما فالتقَى ماءُ السماءِ على الماءِ الذي نبعَ منَ الأرض، ولولا ذلك لخرَّبَ ماءُ السماءِ من قُوَّتِه وضخامَتِه الجبالَ وشقَّقَ الأرضَ لأنه نزلَ قِطَعًا ضخمةً ذلك الوقت ليس كالمطر الذي ينْزل اليوم، وقد بلغ ماءُ الأرض الذي تحمّل ماءَ السماءِ ارتفاعًا عظيما يستغرقُ الشخصَ لو أرادَ قطعَه خمسةَ أشهرٍ حتى يبلغَ أعلاه فأغرقَ اللهُ الكافرين.
وظل نوح ومن معه في السفينة نحوَ ستةِ أشهرٍ وفي هذه المدةِ طافتْ بهم في الأرضِ كلِّها لا تستقرُّ حتى أتتِ الحرمَ في مكةَ المكرمة فدارتْ حولَه أسبوعا ثم ذهبتْ تسيرُ حتى انتهتْ إلى جبلِ الجوديِّ وهو بأرضِ الموصلِ في العراقِ فاستقرتْ عليه، وأمرَ اللهُ السماءَ أن تُمسِكَ ماءَها والأرضَ أن تبتلعَ ما تجمَّعَ عليها وهبطَ نوح عليه السلام ومن معَه منَ السفينةِ محفوفًا بالنصر، بعدَما جفَّتِ الأرضُ وأمكنَ السعيُ فيها والاستقرارُ عليها، وعاشَ نوح والذين ءامنوا معه على الأرضِ وما كانَ لأحدٍ منهم ذريةٌ بعد ذلك إلا لأولادِ نوح؛ سام وحام ويافث، فالبشرُ كلُّهم اليومَ من عربٍ وفُرسٍ وهنودٍ وزنوجٍ وغيرِهم من ذُرِّيتِهم.
ويُروَى أنَّ نوحا عليه السلام لَمَّا حضرتْه الوفاةُ قيل له كيفَ رأيتَ الدنيا؟ وهو الذي عاش نحوَ ألفٍ وسبعِمِائةٍ وثمانين سنة قال:" كبيتٍ له بابان دخلتُ من أحدِهما وخرجتُ منَ الآخر" .
نسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يجعلَنَا منَ الذين يستمعونَ القولَ فيتَّبعونَ أحسنَه .
الحمد لله رب الكائنات، المنَزه عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر. والصلاة والسلام على خير الكائنات وعلى سائر إخوانه النبيين المؤيَّدين بالمعجزات الباهرات.
أما بعدُ عبادَ اللهِ فإني أوصيكُم ونفسِي بتقوى اللهِ العليِّ العظيمِ القائلِ في كتابِه العزيز:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ".
إخوة الإيمان يقول الله تبارك وتعالى في القرءان الكريم:" وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذَّينَ اتَّبَعُوهُ رَأفَةً وَرَحمَةً وَرَهبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبنَاهَا عَلَيهِم إِلاَّ ابتِغَاءَ رِضوَانِ اللهِ" الحديد/27
إخوةَ الإيمان، إنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ تَدُلُّ على البدعةِ الحسنة لأنَّ معناها مدحُ الذين كانوا مِن أمةِ عيسى من المسلمينَ المؤمنينَ المتّبِعين له عليه السلام بالإيمان والتوحيد، فاللهُ تعالى مدَحَهُم لأنهم كانوا أهلَ رأفةٍ ورحمةٍ ولأنهم ابتدعوا رهبانيةً، والرهبانيةُ هي الانقطاعُ عن الشهواتِ حتى إنهم انقطعوا عنِ الزِّواج بدون تحريم رغبةً في تجرُّدِهِم للعبادة.
فمعنى قوله تعالى:" مَا كَتَبنَاهَا عَلَيهِم" أي نحن ما فرضناها عليهم إنما هم أرادوا التقرب إلى الله، فاللهُ تعالى مدحهُم على ما ابتدعوا مما لم يَنُصَّ لهم عليهِ في الإنجيلِ ولا قالَ لهم المسيحُ بنصٍ منه، إنما هم أرادوا المبالغةَ في طاعةِ الله تعالى، والتجردَ بتركِ الانشغالِ بالزواج ونفقة الزوجةِ والأهلِ، فكانوا يبنون الصوامعَ، أي بيوتًا خفيفةً من طين أو من غير ذلك على المواضعِ المنعزلةِ عن البلَدِ ليتجردوا للعبادةِ فاللهُ تعالى سمَّى الرَّهبانيةَ بدعةً ومعَ ذلك فقد مدحها، وهذا يدلُّ على أنه ليس كلُّ أنواع البدعة ضلالة.
فالبدعةُ أيها الأحبّة هي كل ما أُحدِثَ مما لم يرد فيه نصٌّ شرعيٌّ في كتاب اللهِ ولا على لسان النبيِّ، ومعَ ذلكَ فهي تنقسمُ إلى قِسمينِ بدعة هدى وبدعة ضلالة،
ويدُل على ذلك الحديثُ الذي رواه مسلمٌ في صحيحِه من حديثِ جريرِ بنِ عبد اللهِ البَجليّ رضي الله عنه: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" مَن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً فلَه أجرُها وأجرُ مَن عَمِلَ بها بعدَه مِنْ غيرِ أن يَنْقُصَ مِنْ أجورِهم شَىء، ومَنْ سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عمِلَ بها من بعدِه من غيرِ أن يَنْقُصَ مِن أوزارهِم شىء".
وقد روى الحافظُ البيهقيُّ بإسنادِه في مناقبِ الشافعيِّ عن الشافعيِّ رضي الله عنه قال:" الـمُحدَثَاتُ منَ الأمورِ ضربان: أحدُهما مما يخالفُ كتابًا أو سنةً أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه البدعةُ الضلالة، والثانيةُ ما أُحدِثَ مِنَ الخيرِ لا خلافَ فيه لواحدٍ مِن هذا، وهذِهِ محدَثَةٌ غيرُ مذمومةٍ".
فإذًا ما أُحدِثَ ولم يخالِفْ شرعَ اللهِ فهو بدعةُ هُدى وما أُحدِثَ مما يخالفُ شرعَ اللهِ فهو بدعةُ ضلالةٍ.
ومنَ البدعِ الحسنةِ نَقطُ المصاحفِ فإنه كان يكتبُ بلا نقطٍ حتى عثمانُ بن عفان لما كتب ستةَ مصاحفَ وأرسلَ ببعضِها إلى الآفاق كان غيرَ منقوطٍ، وإنما أولُ من نقطَ المصاحفَ رجلٌ من التابعين من أهلِ العلم والفضل والتقوى يقال له يحيى بنُ يَعْمُر فلم ينكر عليه العلماءُ ذلك معَ أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم ما أمرَ بنقط المصحف.
ومما يدلُّ على أن ما أُحدِثَ بعدَ رسولِ الله منه ما هو بدعةُ هدى أن سيدَنا عمرَ بن الخطابِ رضيَ الله عنه جمعَ الناس للتراويحِ في أيام خلافتِه بعدَ أن ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم جمعَ الناس للتراويحِ وقال رضي الله عنه:" نِعْمَ البدعةُ هذه". وهذا مما رواه البخاري، فعمرُ رضيَ الله عنه سماها بدعةً ومعَ ذلك فقد أثنى عليها.
ومنَ البدَعِ الحسنةِ الموافقةِ لشَرعِ اللهِ تعالى عملُ المولدِ الشريفِ في شهر ربيعٍ الأول والذي حدثَ بعدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بمئاتِ السنين، ومع ذلك لم ينكرْه العلماء. بل ذكرَ الحافظُ السَّخاويُّ في فتاويه أن عملَ المولدِ حدثَ بعد القرونِ الثلاثةِ ثم لا زَالَ أهلُ الإسلامِ مِنْ سائرِ الأقطارِ في المدنِ الكبارِ يعمَلونَ المولدَ ويتصدَّقُون في لياليهِ بأنواعِ الصدقاتِ ويعتنونَ بقراءةِ مولدِه الكريمِ ويظهرُ عليهم منْ بركاتِه فضلٌ عميم.
وللحافظ السُّيوطيِّ رسالةٌ سماها:" حسنُ المقصِد في عملِ المولد" بين فيها أن عملَ المولدِ منَ البدعِ الحسنةِ التي يُثاب عليها صاحبُها لما فيه منْ تعظيمِ قدرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وبَيَّن السُّيوطيُّ أنّ أولَ مَن أحدثَ عملَ المولدِ الملكُ المظفرُ ملكُ إربل وكان منَ الملوكِ الأمجادِ والكبراءِ الأجوادِ وكانَ له ءاثارٌ حسنةٌ وهو الذي عمّر الجامعَ المظفريَّ بسَفْحِ قاسْيون. وقال ابنُ كثيرٍ في تاريخِه عن هذا الملك:" كان يعملُ المولدَ الشريفَ في ربيعٍ الأول ويحتفلُ به احتفالاً هائلاً، وكان شهمًا شجاعًا بطلاً عالمًا عادِلاً رحمه اللهُ وأكرَمَ مثواه". وقال ابنُ كثير:" وقد صنفَ له الشيخُ أبو الخطابِ بنُ دحية مجلدًا في المولد سماه" التنويرُ في مولدِ البشيرِ النذير" وقد طالتْ مدتُه في المُلك إلى أن ماتَ وهو محاصِرٌ للفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة محمودَ السيرة والسريرة.
ولم يَعترِضْ عليهِ في هذا الفعلِ في عصرِه ولا فيما بعدَه أحدٌ منَ العلماءِ المعتبرينَ بلْ وافقُوا على ذلكَ ومدَحُوه لما فيه من البركةِ والخيراتِ.
هذا واستغفر الله لي ولكم
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفرُه ونشكرُه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحقّ المبين، وأشهد أنّ سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين من أرسله الله رحمة للعالمين.
أما بعد عبادَ الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ القدير الذي أرسلَ محمدًا بالهدى ودينِ الحقِّ لِيُظهرَه على الدِّينِ كلِّه وكفى بالله شهيدًا.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم الذي رحمنا ببعثة محمد وأنزل على قلب حبيبه محمد:" وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً". الأحزاب/48.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا محمدٍ وعلى ءالِ سيِّدنا محمدٍ المُنْـزَلِ عليه:" لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" التوبة/ 128.
هو محمدٌ الذي جعلَ اللهُ خُلُقَه القرءان، هو محمدٌ الذي يَرضى بما يرضاهُ القرءانُ ويتأدّبُ بآدابه ويتخلَّقُ بأخلاقِه ويلتزِمُ أوامرَه ولا يغضَبُ لنفسِه إلا إذا ارتُكِبَت محارمُ الله، هو محمدٌ الذي بعثَه اللهُ الرحمنُ بالإرفاقِ أي رِفقًا بهذه الأمّةِ لكي يُتمّمَ مكارمَ الأخلاق، هو محمدٌ أشجعُ الناسِ أي أقواهُم قلبًا وأكثرُهم جراءةً لملاقاةِ العدوّ، هو محمدٌ الذي ما سُئل عن شىءٍ قطُّ يعني عن أيِّ حاجةٍ من متاعِ الدُّنيا يُباحُ إعطاؤها فقال لا، إلا إذا كان شيئًا لا يَجِدُهُ، هو محمدٌ الذي كانَ أصدقَ الناسِ لهجةً وأَوْفَى الناسِ ذِمّةً وأحسنَ الناس مُعاشرةً.
نَظَرُه للأرضِ منه أكثرُ |
|
إلى السماءِ خافِضٌ إذْ يَنْظُرُ |
كانَ نظرُه إلى الأرضِ أكثرَ منْ نظرِه إلى السماء، يعني نظرُه إلى الأرضِ حالَ السُّكوتِ وعدمِ التّحدُّثِ أطولُ من نظَرِه إلى السّماء، أما حالَ التّحدُّثِ يرفعُ طَرْفَه إلى السّماء (أيْ إشارةً إلى أنّ السماءَ قبلةُ الدُّعاءِ ومَهبِطُ الرَّحَماتِ والبركاتِ والوحْيِ)، وكان لا يُثَبِّتُ بصرَه في وجهِ أحدٍ لِشدّةِ حيائِه، هو محمدٌ الذي كانَ أكثرَ الناسِ تواضعًا وكانَ أشدَّ الناسِ لأصحابِه إكرامًا لهم ومِن ذلك أنه كانَ لا يمدُّ رجلَه بينَ جُلَسَائِه احترامًا لهم، وكانَ أرحمَ الناسِ بكلِّ مُؤمن، ولا يختَصُّ بِرحمتِه مَن يعقِلُ فقط بلْ تَعمُّ رَحمتُه حتى مَن لا يعقِل كالوحشِ والطَّير، حتى الهرّةُ تأتيْهِ فيُصْغِي لها الإناءَ (أي يُمِيلُه) لتشربَ (حتى يسْهُلَ عليها أنْ تشربَ منه) وكانَ يفعلُ ذلكَ غيرَ مرّةٍ بلْ كلُّ هِرّةٍ أَتَتْه يفعلُ بها ذلك، هو محمدٌ الذي كانَ يمشي معَ المِسكينِ والأرمَلَةِ إذا أتياهُ في حاجةٍ ما، وكان لا يُواجِهُ أحدًا مِنَ الناسِ بشىءٍ يكرَهُه لا سيما جليسَه بل يواجهُه بالرِّضا إلا أنْ تُنْتَهَكَ حُرُماتُ الله، وكان يقولُ إذا بلَغَه عن أحدٍ ما يَكرَهُه:"ما بالُ أقوامٍ يصنَعُون كذا" ولا يقولُ ما بالُ فلانٍ يفعل كذا ، بل كان يقولُ:"ما بالُ أقوامٍ يصنَعُونَ كذا"، إلا إذا دعَتِ الحِكمةُ الشّرعيةُ إلى ذلك.
كانَ مِن شِدّةِ رَحمةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخَلْقِ أنه قيلَ له: "لو دَعَوْتَ على مَن وَطِىءَ ظَهْرَكَ (هذا حصَل مرَّةً مِن بَعضِ كُفّارِ قُريشٍ وهو ساجدٌ. وطِئَ أي داسَ) وأَدْمَى وجهَكَ وكسَرَ رَباعِيَتَكَ ولو دعوتَ على دَوْسٍ وغيرِهم مِنَ الكُفّار" فقال:"إنما بُعِثتُ رَحمةً ولم أُبعثْ لَعّانًا". فلم يُجِبْ مَن سألَه إلى الدعاءِ عليهم بل دعا لهم فقال:" اللهمَّ اهدِ دَوْسًا وَأْتِ بهم مُسلمين". فأصبَحُوا رُؤساءَ في الإسلام، ودوسٌ قبيلةٌ مِن اليمن.
وكانَ صلى الله عليه وسلم يمزحُ معَ أصحابِه مؤانسةً لهم وتآلفًا لِما كانوا عليه مِن شدّة، فكان يُمازِحُهم تخفيفًا عليهم لكنَّه لا يقولُ إلا حقًا لأنه معصومٌ عنِ الكذِب. وكانَ صلى الله عليه وسلم يجلسُ في الأكلِ معَ العبيدِ الأرِقّاءِ ويَتشبَّهُ بهم في الجلوسِ للأكلِ فلا يَترفَّعُ عليهم ويقول:" إنما أنا عبدٌ ءاكُلُ كما يأكُلُ العبدُ وأجلِسُ كما يجلِسُ العَبد".
مَجلِسُه صلى اللهُ عليه وسلم مجلسُ حِلمٍ وصَبرٍ وحياء، يبدأُ مَنْ لَقِيَه بالسّلامِ ويُؤثِرُ الداخلَ عليه بالوِسادةِ أو يبسُطُ له ثوبًا زِيادةً في إكرامِه، وكانَ لا يقولُ في حالةِ الرِّضا والغضَبِ إلا الحقَّ قَطعًا لِعِصْمَتِه صلواتُ ربي وسلامُه عليه .
وعن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها عندَما سُئلتْ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالت: "لم يَكُنْ فاحِشًا ولا مُتفحِّشًا، ولا سَخَّابًا في الأسواق، ولا يَجزِي بالسّيئةِ السّيئة، ولكنْ يَعفو ويَصفحُ أو قالت: يعفُو ويغفِر"، شكّ أبو داود.
أما أخبارُ كرمِه وسخائِه فعديدةٌ منها ما رواهُ مسلمٌ عن أنسٍ رضي الله عنه أنه قال:"ما سُئلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الإسلامِ شيئًا إلا أعطاه، فأتاه رجلٌ فسألَه، فأمرَ له بغنمٍ بينَ جَبَلَين، فأتى قومَه فقال: أسلِمُوا، فإنّ محمدًا يُعطي عطاءَ من لا يخافُ الفاقة".
أما أخبارُ زهدِه وتواضُعِه واختيارِه الدارَ الآخرةَ فكثيرةٌ منها ما رواهُ البيهقيُّ والترمذيُّ وابنُ ماجه عن عبدِ الله أنه قال: اضطجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على حصيرٍ فأَثَّرَ الحصيرُ بجلدِه، فَجَعَلْتُ أمسَحُه عنه وأقول بأبي أنتَ وأُمي يا رسولَ الله، ألا أذِنتنا فنبسُطُ لكَ شيئًا يقيكَ منه تنامُ عليه، فقال:" ما لي ولِلدُّنيا، وما للدُّنيا ومالي، إنما أنا والدُّنيا كراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وتَرَكَهَا".
فقد كانَ صلى الله عليه وسلم مُتَّصِفًا بصفاتٍ حسَنةٍ منَ الصِّدق، والأمانةِ، والصِّلَة، والعفافِ، والكَرَمِ، والشجاعةِ، وطاعةِ اللهِ في كلِّ حالٍ وأوانٍ ولحظةٍ ونفَسٍ، معَ الفصاحةِ الباهرةِ والنُّصحِ التّامِّ، والرَّأفةِ والرَّحمةِ، والشَّفَقَةِ والإحسانِ، ومواساةِ الفقراءِ والأيتامِ والأراملِ والضُّعفاءِ، وكانَ صلى الله عليه وسلم أشدَّ الناسِ تواضعًا، يحبُّ المساكينَ ويَشهَدُ جنائزَهُم، ويعودُ مرضَاهم، هذا كلُّه معَ حُسْنِ السَّمْتِ والصُّورة، والنَّسَبِ العظيم، قال اللهُ تعالى:"اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ" سورة الأنعام / 124.
ياسيدي يا قرة عيني يارسول الله ، نظرة منكم ياسيدي يا محمّد .
اللهمّ عَطِّفْ قلبَ نبيِّك محمّدٍ علينا وداوِنا بنظرةٍ منه يا أرحمَ الراحمينَ يا الله .
هذا وأسغفر الله لي ولكم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا شبيهَ له، ولا حيّزَ ولا جهةَ ولا مكانَ له، ولا هيئةَ ولا صورةَ ولا شكلَ له، ولا جسدَ ولا جثّةَ ولا لونَ له، ولا ضِدَّ ولا نِدَّ ولا حدَّ له، سبحانَه ليس كمثلهِ شيءٌ وهو السميعُ البصير، وأشهدُ أن سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنا محمّدا عبدُه ورسولُه، ونبيُّه وصفيُّه وخليلُه، شهادةً تُنجِي قائلَها من سَقََر، وتُرغمُ أنفَ مَن أشركَ باللهِ وكفر. والصلاةُ والسلامُ عليكَ يا سيِّدي يا رسولَ اللهِ يا محمَّد، أيُّها الممَجَّدُ المؤيَّد، يا صاحبَ المعجزاتِ الباهراتِ الظاهرات، مَن أُنزِلَ عليهِ الآياتُ الواضحات، وجاءتْ بهِ البِشاراتُ الصادقات، صلى عليك اللهُ يا علمَ الهُدَى ما ناحتْ على الأَيْكِ الحَمائِم.
أما بعدُ عبادَ اللهِ فإني أوصيكُم ونفسِي بتقوى اللهِ العليِّ العظيمِ القائلِ في كتابِه العزيز:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ". فأطيعُوا اللهَ تَعَالى، وأطيعُوا الرسولَ الكريمَ الذي جاءَنَا بالهدَى والحقِّ المبين، وهو الصادقُ الوعدِ الأمينُ البشيرُ النَّذير، المبشَّرُ بهِ في كتُبِ الأوَّلِينَ، فلقدْ جاءَتِ البَشائِرُ بهذا الرَّسولِ العظيمِ جَمَّةً غَزِيرةً ومنذُ ءادمَ عليهِ السَّلام، وهوَ الذِي توسَّلَ بهِ حينَما عَصَى ربَّه (معصيةً صغيرةَ ليس فيها خسةٌ ولا دناءة) وذلكَ قبلَ أن يُخْلَقَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم فقالَ:" يا ربِّ أسألكَ بحقِّ محمّدٍ إلا ما غَفَرْتَ لي، فقالَ اللهُ عزَّ وجلَّ ( وهو أَعْلَم ) : يا ءادمُ كيفَ عرفْتَ محمّدًا ولم أَخْلُقْهُ، قالَ: لأنَّكَ يا ربِّ لما خلقتَنِي بيدِكَ ( أي بعنَايَتِكَ) ونفخْتَ فيَّ مِنْ رُوحِكَ ( أي أَمَرْتَ الملَكَ أنْ ينفُخَ فِيَّ مِنَ الرُّوحِ المشرَّفِ الذي ليسَ جُزْءًا مِنَ الله) رَفَعْتُ رَأْسِي فرَأَيْتُ اسمَهُ على قوائِمِ العَرْشِ مَكْتُوبًا: لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله، فَعَلِمْتُ أنكَ لم تُضِفْ إلى اسمِكَ إلا أحَبَّ الخَلْقِ إليكَ" الحديثُ رواه الحاكمُ وصحّحَه.
كم هو عظيمٌ اسمُك يا سيّدِي يا رسولَ الله، وقد رفعَ اللهُ ذِكْرَكَ، وقَدْ قَالُوا عَنْكَ:
أغرُّ ( أي جميلُ الطَّلعةِ، طلعتُه زهراء)
أغرُّ، عليـهِ للنُّبُـوَّةِ خاتَـم مِنَ اللهِ مشهورٌ يلوحُ ويُشْهَـدُ
وضَمَّ الإلهُ اسمَ النبيِّ إلى اسمِهِ إذا قالَ في الخَمْسِ المؤذِّنُ أشهدُ
سيّدي يا رسولَ الله يا محمّد
وها همُ الأنبياءُ قد بَشَّرُوا بِظُهورِ عَهْدِهِ وَوُرُوْدِ سَعْدِهِ، فإبراهيمُ الخليلُ أبو الأنبياءِ عليه السلامُ يدعُو اللهَ أنْ يَمُنَّ على أهلِ بيتِهِ الذين سكنُوا مكةَ برسولٍ يتلُو عليهم ءاياتِه، فاستجابَ اللهُ دعاءَه، قال اللهُ تعالى إخبارًا عن إبراهيمَ عليه السلامُ أنه قال:" رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" البقرة/ 129.
وها هو نبيُّ اللهِ عيسى عليه السلام، يُبشِّرُنا بالرّسولِ أحمدَ ويدعُو قومَهُ إلى تصديقِه، يقولُ اللهُ تعالى إخبارا عن عيسى ابنِ مريم:" مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ". وقد روى البيهقيُّ في دلائِلِهِ قصةً غريبةً فيها دِلالةٌ على أنَّ سيدَنا عيسى عليه السلام أوصى بِاتِّباعِ محمّدٍ إذا ظهَرَ فقال:" خرجَ مِنَ اليَمَنِ أربعةُ أشخاصٍ قاصدينَ مكةَ فأدركَهُمُ الليلُ في البَرِّيّةِ فنَزَلُوا في بعضِ الليلِ في أرضٍ فنَامُوا إلا شخصًا واحدًا منهم يُسَمَّى الجَعْدَ بنَ قَيْسٍ المُرَادِيّ، فسمِعَ هاتفًا لا يُرَى شَخْصُه يقول:
ألا أيُّها الرَّكبُ المُعَرِّسُ (أي النازِلُ في الليل) بَلِّغُوا إذَا مَا وَصَلْتُمْ لِلْحَطِيْمِ وَزَمْزَما
محمَّدًا المبعُوثَ مِنَّا تَحِيَّةً تُشَيِّعُهُ مِنْ حَيْثُ سَارَ وَيَمَّما
وقُولُوا لَهُ إنَّا لِدِينِكَ شِيْعَةٌ( أي أنصار) بِذلكَ أوصَانَا المسيحُ ابنُ مَرْيَما
فالهاتفُ كانَ جِنِيًّا ءامنَ بعيسى عليه السلامُ وسمِعَ منْهُ وصيَّتَهُ بالإيمانِ بمحمدٍ إذا ظهرَ واتِّبَاعِه، سيِّدِي يا رسولَ اللهِ يا محمّد.
[إخوةَ الإيمان، وممنْ عَرَّفَ به قبلَ بعثَتِهِ صلَّى الله عليه وسلم، بل قبلَ وِلادَتِهِ وكانُوا يَرْتَقِبُونَ ظهورَه وَبُرُوزَه لِـمَا عَرَفُوهُ مِنَ الأخبارِ عنِ الأحبار، وما سُطِرَ في الكُتُبِ القَدِيمَةِ عن أوانِه وَوُضُوحِ بُرهانِه، مجموعةٌ منَ اليهودِ الذينَ كانُوا يعيشونَ في المدينةِ قبلَ المبعَثِ العَظِيم، فعنْ أحدِهِم وقَدْ كانَ يُحَدِّثُ بعضَ الغِلمان في المدينةِ إذْ بهِ يصيحُ فجأةً قائِلا: ها قد طلَعَ نجمُ أحمدَ فقدْ وُلِدَ نبيُّ ءاخرِ الزَّمان ولكنْ لَـمَّا ذُكِّرَ بعدَ مَبْعَثِه بذلك قال: لا ليس هو بلْ غيرُه. وهُم كمَا أخبرَ اللهُ سبحانَه وتعالى عنهم:" يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ" ولكنْ ما كلُّ النَّاسِ يَهْتَدُون.]
سيّدي يا رسولَ اللهِ يا محمّد.
إخوةَ الإيمان، تُرى كيف كانَ حالُ ءامنةَ يومَ جاءَها المبَشِّرُ، أنْ أَبشِرِي يا ءامنةُ قدْ حمَلْتِ بسيِّدِ النَّاس، فإذا وضعتِهِ فسَمِّيه محمّدا. يا لَهُ مِن شُعورٍ عظيمٍ قدِ انتابَ أُمًّا هي قد حمَلَتْ بخيرِ المخلوقات محمّد!! سيدي يا رسولَ اللهِ يا عظيمَ الجاهِ يا محمّد.
أحبابَنا، إنَّ الراهبَ بَحِيرَى كان يعرفُ صفاتِ النبيِّ ويَنتظِرُ ظهورَه، وهلِ الراهب بَحِيرَى بَقِيَ بعدَ ذلكَ بِحَيْرَةٍ وقدْ ثبتَ لهُ يقينًا وعِيَانًا بالدلائِلِ التي ظهرتْ لهُ مِن رسولِ اللهِ وميَّزتِ الحبيبَ عمّنْ سِواهُ بأنَّهُ حقًّا رسولُ الله، فقدْ كانُوا ينتظرونَ ويَرقُبُونَ ظهورَه، فحصلَ المرامُ إذْ جاءَ ركبُ قريشٍ كمَا كانَ يأتي، إلا أنَّ الجديدَ بَرَزَ مِن بَحِيرَى الراهبِ فكانَ في السَّابِقِ لا يَكترِثُ لِرَكْبِهِم فما الذي تغيّرَ منهُ لِيَنْزِلَ مِن صَومَعَتِهِ وَيَدْعُوهُم حتى كانَ ذلكَ العامُ فصنَعَ لهم طعامًا كثيرًا. فقدْ قيلَ بأنَّهُ رَأَى سيدَنا محمّدًا في الرَّكْبِ حينَ أَقْبَلَ وغَمَامَةٌ تُظلُّه مِن بينِ القَوم، فنَزَلُوا في ظِلِّ شجرةٍ فَنَظَرَ إلى الغمامَةِ حينَ أظَلَّتِ الشجرةَ ومَالَتْ أغصانُ الشجرةِ على رسولِ اللهِ حتى استَظَلَّ تَحْتَهَا. ثمَّ دعَاهُم بَحِيرَى كبيرَهم وصغيرَهم حُرَّهم وعبدَهم، فقال له رجلٌ: إنَّ لكَ شأنًا اليومَ! مَا كُنتَ تَصنَعُ هذا بِنَا، فقال صَدَقْتَ، فاجتَمَعُوا إليه وتخلَّفَ رسولُ اللهِ بينَ القومِ لحداثةِ سِنِّه. فلمَّا لم يَرَهُ بَحِيرَى قالَ يا معشرَ قُريشٍ، لا يَتَخَلَّفَنَّ أحدٌ منكُم عن طعامِي فقالوا ما تخلَّفَ إلا غُلامٌ وهو أحدَثُ القومِ سِنًّا، فقالَ لا تَفْعَلُوا، ادْعُوه، فدعَوه، وأجلسَهُ معَ القومِ فجعلَ يلحظُه لَحْظًا شديدا، حتَّى إذا فرغَ القومُ منَ الطَّعامِ وتفرَّقُوا قامَ إليه بَحِيرَى وقالَ بالله إلا ما أَخبَرتَنِي عمَّا أسألُكَ عنْهُ، فقال لَهُ: سَلْنِي عمَّا بَدَا لك، فجعلَ يسألُهُ عنْ نومِهِ وهيئَتِهِ وأمورِه. فجعلَ رسولُ اللهِ يُخبرُه فيوافقُ ما عندَ بَحِيرَى مِن صِفَتِه، ثم نظرَ إلى ظَهْرِهِ فرأى خاتَمَ النبوةِ بين كَتِفَيْهِ على موضِعِهِ مِن صِفَتِهِ التي عندَهُ وكانَ مِثلَ أَثَرِ المِحْجَم( أي قارورة الحجامة). فَلَمَّا فرغَ قالَ لعمِّه أبي طالبٍ ما هذا الغلامُ مِنْكَ؟ قال ابْنِي، قال بَحِيرَى ما هو ابنُكَ ومَا ينبَغِي لهذا الغلامِ أنْ يكونَ أبوهُ حيًّا، فقال إنَّه ابنُ أخِي، قالَ فمَا فعلَ أبوه، قالَ ماتَ وأمُّه حُبْلَى بِه، قالَ صَدَقْتَ، فارْجِعْ بابنِ أخيكَ إلى بَلَدِهِ واحذَرْ عليه يَهودًا فوالله لَئِنْ رَأَوْهُ وعَرَفُوا مِنْهُ ما عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ شرًّا، فإنه كائِنٌ لابنِ أخيكَ هذا شأنٌ عظيم.
هذا وأستغفر الله لي ولكم
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكرُه ونستغفرُه ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهدِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ ومَنْ يُضللْ فلا هادِيَ لهُ.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ الواحدُ الأحدُ الفردُ الصمدُ الذي لم يتَّخذْ صاحبةً ولا ولدًا، جَلَّ رَبِّي لا يشبهُ شيئًا ولا يشبهُه شىءٌ ولا يحُلُّ في شىءٍ ولا ينحلُّ منه شىءٌ، جلَّ رَبِّي تنَزَّهَ عنِ الأينِ والكيفِ والشكلِ والصورةِ والحدِّ والجهةِ والمكانِ، ليسَ كمِثْلِهِ شىءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ. وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرَّةَ أعيُنِنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه الذي أرشدَنا إلى طريقِ الخيرِ والهدَى والنورِ حيثُ قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "يا أيُّها الناسُ تعلَّموا فإنَّما العِلمُ بالتعلُّمِ والفِقهُ بالتفقُّهِ فمَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ" . متَّفقٌ عليهِ.
الصلاةُ والسَّلامُ على سَيِّدِنا محمَّدٍ النبيِّ الأُمِّيِّ الذي علَّمَنَا الحضارةَ وأرشدَنا إِلى مَا فيهِ خيرُنا وصلاحُنا ونجاحُنا في الدُّنيا والآخرةِ.
أمَّا بعدُ عِبادَ اللهِ فإنِّي أوصيكُمْ ونفْسِي بتقوَى اللهِ العَلِيِّ القديرِ القائلِ في محكمِ كتابِه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (سورة المجادلة/11) .
إخوةَ الإيمانِ، إنَّ فضيلةَ العِلْمِ أيْ عِلْمِ الدِّينِ ظاهرةٌ وواضحةٌ وضوحَ الشمْسِ في رابعةِ النهارِ وشواهدُها مِنْ كتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ كثيرةٌ منها قولُه تعَالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ }الآيةَ. (ءال عِمران/19) .
فانظرْ أخي المؤمِنَ كيفَ جاءَ في الآيةِ ذِكْرُ اللهِ ثمَّ الملائكة ثمَّ أهل العِلْمِ وناهيكَ بهذا شرفًا وفضْلاً وجلاءً ونبلاً.
وقالَ تعالى:{ يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} الآيةَ.المجادلة/11
وقالَ عزَّ وجلَّ:{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } الآيةَ.(سورةَ الزمر/9) .
وقالَ تعالى: { قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ }(الآيةَ. (سورةَ النمل/40) . (أيْ عرشِ بلقيس الذِي جعلَتْهُ خلفَ سبعةِ أبياتٍ) .قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ }(الآيةَ... وفي هذا لا شَكَّ إشارةٌ إِلى فضلِ العِلْمِ.
وهذا سيِّدُ الخلقِ وأعلمُ الخلقِ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: "يَا أيُّهَا الناسُ تعلَّموا فإنَّما العِلْمُ بالتعلُّمِ والفقهُ بالتفقُّهِ فمَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خيرًا يفقِّهْهُ في الدِّينِ" متفقٌ عليهِ.
وهوَ القائلُ صلواتُ ربِّي وسلامُه عليهِ : "يا أبَا ذرٍّ لأنْ تغدوَ فتتعلَّمَ ءايةً مِنْ كتابِ اللهِ خيرٌ مِنْ أنْ تصلِّيَ مائةَ ركعَة (أيْ مِنَ السُّنَنِ) ولأنْ تغدوَ فتتعلَّمَ بابًا مِنَ العِلْمِ خيرٌ لكَ مِنْ أنْ تصلِّيَ ألفَ ركعة" (أيْ مِنَ النوافلِ مِنَ السننِ).
فلوْ لم يكنْ في فضْلِ العِلْمِ إلا هذَا الحديثُ لَكَفَى. لأنَّ عِلْمَ الدِّينِ هوَ حياةُ الإسلامِ مَنْ أهملَهُ فهوَ تائهٌ ضائعٌ يميلُ معَ كُلِّ رِيحٍ. الجاهلُ كالتائهِ في وسَطِ الصحراءِ بلا دليلٍ لا يدري هلْ يقتربُ مِنْ مقصودِهِ أمْ يبتعدُ، وهكذَا الجاهلُ لا يضمنُ صِحَّةَ صلاتِه ولا صحةَ صيامِه ولا صحةَ حَجِّهِ. فبعِلْمِ الدِّينِ تميزُ الكفرَ مِنَ الإيمانِ والحلالَ مِنَ الحرامِ، بعِلْمِ الدِّينِ تميزُ الحقَّ مِنَ الباطلِ والحسنَ مِنَ القبيحِ، وبعِلْمِ الدِّينِ تعرفُ كيفَ تتكلَّمُ وماذَا تتكلَّمُ ولماذَا تتكلَّمُ وإذَا سَكَتَّ لماذا تسْكُتُ، بعِلْمِ الدِّينِ تعرفُ كيفَ تَبيعُ وكيفَ تشترِيْ وكيفَ تُجريْ عقدَ النكاحِ لكَ أوْ لابنتِكَ أوْ لولدِكَ، بعِلْمِ الدِّينِ تعرفُ كيفَ تكونُ بارًا بوالدَيْكَ وكيفَ تحسنُ لأرحامِكَ ولجيرانِكَ، بعِلْمِ الدِّينِ تعرفُ وتعرفُ وتعرفُ.
فتأمَّلْ معِي أخِي المؤمنَ لوْ أنَّ شريحةَ المجتمعِ التي تعيشُ بينَها تعرفُ هذَا وعندَها هذَا الميزانُ الشرعيُّ الذي اكتسبَتْهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ كيفَ سيكونُ الحالُ، فبعدَ هذَا كلِّهِ أقبِلْ إِلى مجالسِ عِلْمِ الدِّينِ ولا تكنْ مِنَ المستمعينَ فقطْ بلْ كُنْ مِنَ المستمعينَ النقَلَةِ الذينَ يستمعونَ ويتعلَّمونَ ويغترفونَ ويضبطونَ ويحرِّرونَ وينقلونَ بضبطٍ تامٍّ هذِه الدررَ والجواهرَ إِلى غيرِهِمْ بدونِ زيادةٍ أوْ نقصانٍ.
فلنتعلَّمْ عِلْمَ الدِّينِ الصَّافيَ لأنَّهُ الطريقُ إِلى السعادةِ الأبديَّةِ فطلبُهُ عبادةٌ وتعليمُه صدقةٌ وأيُّ صدقةٍ وهوَ الأنيسُ في الوَحدةِ والصاحبُ في الخلْوَةِ ومنارُ سبيلِ الجنَّةِ يرفعُ اللهُ بهِ أقوامًا فيجعلُهُمْ في الخيرِ قادةً وَسادةً هداةً يُقتدَى بهِمْ أدلَّةً في الخيرِ تُقتصُّ ءاثارُهُمْ وتُرمَقُ أفعالهُمْ تضعُ الملائكةُ لهمْ أجنحتَها تواضعًا لهمْ وتستغفرُ لهمْ حيتانُ البحرِ وطيرُ البَرِّ لأنَّ عِلْمَ الدِّينِ حياةُ القلوبِ مِنَ العَمى ونورُ الأبصارِ مِنَ الظُّلَمِ وقوةُ الأبدانِ مِنَ الضَّعفِ يَبلُغُ بهِ العبدُ منازلَ الأبرارِ والدرجاتِ العُلَى، بهِ يُطاعُ اللهُ عزَّ وجَلَّ وبهِ يُعبدُ وبهِ يُوَحَّدُ وبهِ يُمَجَّدُ وبهِ يُتورَّعُ وبهِ توصَلُ الأرحامُ وبهِ يُعرَفُ الحلالُ والحرامُ وهوَ إمامٌ والعملُ تابعُه يُعَلَّمُهُ السعداءُ ويُحْرَمُهُ الأشقياءُ.
نَسألُ اللهَ أنْ يعلِّمَنا ما ينفعُنا وأنْ ينفعَنا بما عَلَّمَنا وأنَ يزيدَنا عِلْمًا وأنْ يَرزُقَنا الإخلاصَ في القولِ والعِلْمِ والعمَلِ إنَّهُ على كلِّ شىءٍ قديرٌ وهوَ نِعم المولى ونِعم النصيرِ.
هذَا وأستغفرُ اللهَ لي ولَكُمْ