إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا ضد ولا ندّ له، أنزل على قلب عبده وحبيبه محمّد قرءانا عربيًا من تمسّك بهديه فاز فوزًا عظيمًا. فلقد قال ربّناعزّ وجلّ:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} سورة الإسراء/23 .
وأشهد أنّ سيّدَنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمّدًا عبدُ الله ورسولُه وصفيّه وحبيبه بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة، فهو القائل في حديثه الشريف:" إنَّ مِنْ أبرِّ البِرِّ أن يَبَرَّ الرجلُ أهلَ وِدِّ أبيه بعدَ أن يُوَلِّي" (أي بعد أن يموت). فجزاكَ اللهُ عنا يا سيّدي يا رسولَ الله خيرًا، جزاكَ اللهُ عنا خيرَ ما جَزَى نبيًّا من أنبيائِه، الصلاةُ والسلامُ عليكَ يا سيِّدي يا محمّد، الصلاةُ والسلام عليك يا سيّدي يا معلّمَ الخير، الصلاةُ والسلامُ عليكَ يا علَمَ الهدى ويا بدرَ الدُّجَى يا محمّد.
أما بعدُ أيها الأحبّةُ المسلمون، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ العظيم، فالتقوى هي سبيلُ النجاةِ يومَ الدِّين، هي التي تنفَعُ يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنُون إلا مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم.
إخوةَ الإيمان، لقد جاءَ الأنبياءُ بالهُدى والبيِّنَات ودَعَوْا إلى المكارمِ والمعالي وأعمالِ الخير، فَمِنَ المكارمِ والمعالي التي جاءَ بها أنبياءُ اللهِ عزَّ وجلَّ بِرُّ الوالدَين. يقولُ اللهُ تعالى:{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. الإسراء 23-24
إخوةَ الإيمان، أمرَ اللهُ عبادَه أمرًا مقطوعًا به بأنْ لا يعبُدُوا إلاّ إيَّاه وأمرَ بالإحسانِ للوالدين، والإحسانُ هو البِرُّ والإكرام. قال ابنُ عباس:"لا تنفض ثوبَكَ فيصيبهما الغبار".
وقد نهى اللهُ تعالى عبادَه في هذه الآية عن قولِ { أُفٍّ } للوالدَين، وهو صوتٌ يدلُّ على التَّضَجُّر، فالعبدُ مأمورٌ بأنْ يستعمِلَ معَهُما لِينَ الخُلُقِ حتى لا يقول لهما إذا أضجَرَهُ شىءٌ منهُمَا { أُفٍّ } ، كلمةُ { أُفٍّ } نهاكَ اللهُ عن قولها لوالديك.
{ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } أي ولا تنهاهُما عن شىءٍ أحبّاه لا معصيةَ للهِ فيه، وقُل لهما قولاً ليِّنًا لطِيفًا أحسن ما تجد، كما يَقْتَضِيهِ حسنُ الأدب.
واسمَعُوا جَيِّدًا قولَ اللهِ تعالى:{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي ألِن لهما جانِبَكَ مُتذلِّلاً لهما مِنْ فَرْطِ رَحمتِك إياهما وعَطفِكَ عليهِما. كُن ليِّنَ الجانبِ متذلِّلاً لوالدَيك، وتذكّر أنكَ بالأمسِ في صِغَرِكَ كنتَ أفقرَ خلقِ اللهِ إليهما، مَنِ الذي أزالَ عنكَ النجاسةَ في صِغَرِك؟ منِ الذي سهرَ الليالي لأجلِ صِحَّتِك؟ فَبِرّ الأمّهاتِ أعظمُ ثوابًا من برِّ الآباءِ لعَظيمِ فضلِ الأمّ وما تحمّلَتْهُ وقدّمَتْهُ لولدها في سبيل تربيتِه. رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَمّا سألَه بعضُ الصحابةِ: "مَنْ أحقُّ الناسِ بحُسْنِ صحابتي ؟ قال: أمُّك. قال: ثمّ مَن ؟ قال: أمُّك. قال: ثم مَن ؟ قال: أمُّك. قال ثم من ؟ قال: أبوك" .
لقد حضّ الإسلامُ الولدَ على طاعةِ الوالدَيْن فيما لا معصيةَ فيه، وجعلَ اللهُ تعالى للمسلمِ الذي يطيعُ والدَيه فيما لا معصيةَ فيه أجرًا عظيمًا في الآخرة، بل منَ الناسِ مَن أكرمهم اللهُ بأشياء في دنياهم قبل ءاخرتهم بسبب بِرِّهم لأمّهم كبلال الخواص رضي الله عنه الذي كان من الصالحين المشهورين قال:" كنتُ في تِيْهِ بني إسرائيلَ فوجدتُ رَجُلاً يماشيني فأُلْهمتُ أنه الخضر (والخضرُ إخوة الإيمان هو نبيٌّ على القولِ الراجحِ ولا زال حيًا إلى الآن بقدرة الله تعالى) قال بلال الخواص رضي الله عنه: فسألتُه عن مالِك بنِ أنس فقال هو إمامُ الأئمةِ ثم سألتُه عن الشافعيِّ فقالَ هو منَ الأوتادِ ثم سألتُه عن أحمدَ بنِ حنبل فقال هو صِدِّيق. ثم قال له: أسألُكَ بحقِّ الحقِّ مَن أنت؟ فقال أنا الخضر. قال: فقلتُ له: ما هي الوسيلةُ التي رأيتُك بها؟ قال: بِرُّك بأمّك". أي الفضيلةُ التي جعلتْكَ أهلاً لرؤيتي هي كونُك بارًا بأمِّك.
وتذكّر أخي المسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:" كلُّ الذُّنوبِ يُؤخِّرُ اللهُ منها ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلا عقوقَ الوالدين فإنه يُعجّلُ لصاحبه" رواه الحاكم، أي يعجّل له في العُقوبة، الله يعاقبُه في الدنيا قبلَ يومِ القيامة، فكلنا مأمورٌ بأن يبرَّ والدَيه فإذا أمرَ أحدُ الوالدين ولدَه بأن يفعلَ أمرًا مباحًا أو يتركَه وكان يحصلُ لهماغمٌّ إنْ خالفهما فيجبُ عليه أن يطيعَهما في ذلك، أما إن أمره أحدُ والدَيه بمعصيةٍ فلا يطيعه في ذلك، فقد قال الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم:" لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق". وبر الوالدين المسلمَين لا يكونُ فقط في حال حياتهما بل يكون أيضًا بعدَ وفاتهما، فالولدُ إنِ استغفرَ لوالدَيه المسلمَين بعدَ موتهما ينتفِعَانِ بهذا الاستغفار ويلحقُهُما ثوابٌ كبيرٌ فيعجبان، من أيِّ شىءٍ جاءهما هذا الثواب، فيقولُ الملَكُ: هذا منِ استغفارِ ولدِكما لكُما بعدَكُما.
وفي الصحيحين عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال:" سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمَلِ أحبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلّ؟ قال: الصلاةُ لوقتِها، قلتُ: ثمّ أيُّ؟ قال: بِرُّ الوالدَيْن".
نسألُ الله عزَّ وجلَّ أن يجعلَنا منَ البارِّين لوالدِينا، ونسألُه عزَّ وجلّ أن يجعلنا من الذين يستمعون القولَ فيتّبعونَ أحسنَه إنه على كلِّ شىءٍ قدير.