إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا ضد ولا ند له، وأشهد أنّ سيّدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرّة أعيننا محمدًا عبده ورسوله وصفيّه وحبيبه صلى الله وسلم عليه وعلى كل رسول أرسله.

أما بعد عباد الله فإنّي أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم القائلِ في محكم كتابه:" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3} تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ {4} سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ {5} ".سورة القدر.

هي ليلةٌ عظيمة الشأن لا تكون إلا في شهر رمضان ولا يشترط أن تكون ليلة السابع والعشرين منه بدليل حديث واثلة بنِ الأسقع قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أُنزلت التوراةُ لستٍ مضَين من رمضان وأنزل الإنجيلُ لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل الفرقانُ لأربع وعشرين خلت من رمضان".

فيحتمل أن تكون أي ليلةٍ من ليالي رمضان، والغالب أنها تكون في العشر الأواخر من رمضان.

{ليلة القدر خيرٌ من ألفِ شهر} . فمن أراد إحياءَ ليلةِ القدر فليتهيّأ لهذه الليلةِ العظيمةِ المباركة أولاً بعلم الدين لأنه هو أي علمُ الدين حياة الإسلام ولأن العلمَ قبلُ العمل، فمن أراد أن يحييها بالذكر، بالاستغفار، بالتسبيح والتحميد والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، عليه أولاً بعلم الدين، من أراد أن يحييها بصلاة التطوع، بقيام الليل، بتلاوة القرءان العظيم عليه أولاً بعلم الدين، كثيرٌ من الناس اليوم لا يعرفون خالقهم إنما يقولون بألسنتهم لا إله إلا الله. لا إله إلا الله هي حِصنٌ لمن تجنبَ الكفريات فمن قال بلسانه لا إله إلا الله وفي قلبه ما ينقُضُ معنى لا إله إلا الله فهذا ليس بمسلم عند الله، كمن اعتقد أن الله ضوء أو جسم أو روح.

ولا تستغرب أخي المسلم الصائم من تركيزنا وتشديدنا على هذا الموضوع، فلقد ظهرَ في عصرنا هذا من يقول الله ذكر والمطر بوله والعياذ بالله من هذا الكفر .

وتتميزُ ليلةُ القدر بالنسبة لمن يراها يقظةً أنه يرى أنوارًا غير أنوار الشمس والقمر والكهرباء، أو قد يرى أن شروق الشمس في غد تلك الليلة المباركة العظيمة في صبيحتها يختلف عن شروق شمس صبيحة باقي الأيام .

{تَنَزّل الملائكة} أي ملائكة الرحمة .

{تَنَزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر}

أي تهبط الملائكةُ من كلِّ سماء إلى الأرض. والمراد بالروح جبريلُ عليه السلام وهو أشرفُ الملائكة.

وللملاحظة إخوة الإيمان، الملائكةُ أجسامٌ نورانية ليسوا ذكورًا ولا إناثًا لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتناكحون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وقوله تعالى: {فيها} أي في ليلة القدر .

وقوله تعالى: {من كل أمر} أي بما أمر الله تعالى به وقضاه يتنَزلون بكلِّ أمرٍ قضاه الله في تلك السنة إلى قابل، ليلة القدر هي الليلة التي قال الله تعالى فيها: {فيها يُفرق كلُّ أمر حكيم} الدخان/4 .

أي فيها يُطلع اللهُ تعالى ملائكتَه الكرام على أخبارِ السنةِ القابلة من إماتةٍ وإحياءٍ ومَن مِنَ العباد سيبتليهمُ اللهُ بالمرضِ والفقر والبلاء ومن منهم يُنْعِمُ عليهم بالصحة والغنى وغير ذلك، يُطلعُ اللهُ في ليلةِ القدرِ الملائكةَ المقربين. هذا معنى {فيها يُفرق كلُّ أمر حكيم} الدخان/4 .

ومن الناس من يراها في المنام، كأن يرى الأشجارَ ساجدةً لله وقد يرى ذلك يقظة والأكملُ والأقوى رؤيتُها يقظة، ومن رءاها في المنام ففي ذلك خير. فمن أكرمه الله تعالى برؤيتها في تلك الليلة فليدعُ اللهَ أن يفرّجَ الكربَ عن المسلمين وأن يرفعَ البلاءَ والغلاء عن المسلمين وأن يرفعَ عنهم ويفرّجَ عنهم ما أهَمّهم وأغمّهم وليقل اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني . (وعنا) .

وينبغي لمن رأى ليلةَ القدر أن يكتمَ ذلك ولا يتكلم به للناس لأمورِ منها أنه يُخشى أن يُصابَ بالعين، ومنها أنه إن تكلم قد يؤدي ذلك إلى فتورِ همةِ بعضِ المجتهدين بالعبادة رجاءَ أن توافقَ عبادتُهم ليلةَ القدر ليضاعف ثوابهم، فإنّ مِن حِكَمِ إخفائها عن الناس أن يجتهدَ العبدُ في الطاعة كل ليالي رمضان رجاء أن تصادف عبادته ليلة القدر ليضاعف ثوابه. ففي الحديث:" من قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" .

واعلموا أنه ينبغي للإنسان المؤمن أن يعملَ بالطاعات في ليالي رمضان كلِّها حتى يصيب تلك الليلة كي لا يفوته ثواب إحيائها ولو لم ير علاماتها في اليقظة أو في المنام، فهيئوا الزاد ليوم المعاد وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا واستعدوا ليوم لا بد فيه من أن تدخلوا حفرة القبر، والقبر بابٌ وكلُّ الناس داخله وملَكُ الموتِ لا يستأذنُ كبيرًا كما لا يستأذنُ صغيرًا ولا يتركُ قويًا معافًى كما لا يتركُ مريضًا سقيمًا أو شيخًا هَرِمًا فأقبلوا إلى ءاخرتكم بالطاعة والتوبة قبل الموت .

هذا وأستغفر الله لي ولكم