133 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

Articles

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ولا مثيلَ له، تَنَزّهَ الله عن الجسمِ والصورة والشكل والأعضاء والأدوات، تنزّه الله عن صفاتِ خَلقِة فهو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الأول الذي لا بداية لوجوده وما سواه حادث، هو الواحد الذي لا شريك له في الألوهيّة ولقد صدق الله العظيم بقوله:" قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ {1} اللهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4}"وأشهد أن سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرّةَ أعيُنِنا محمّدا عبدُه ورسولُه وصفيه وحبيبه، صادقٌ في كل ما يُبلغه عن ربه، لا يُخطىء في ذلك ولا يجوز عليه الخطأ في ذلك، بلّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأُمةَ فجزاه الله عنا خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائه، اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك وأكرِم وأعظِم على سيدِنا محمّدٍ طِبِّ القلوبِ ودوائِها وعافيةِ الأبدانِ وشفائِها، ونورِ الأبصارِ وضيائها، اللهم صلِّ وسلم على سيدِنا محمد وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

أما بعدُ عبادَ الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ القدير وبالثباتِ على عقيدة الأنبياءِ والمرسلين وبالاقتداءِ بهم وبالتّخلُّقِ بأخلاقِهم وأخذِ العِبَرِ مِن سلوكهم، فلقد قال الله تعالى:" أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ"، فلقد حدثناكم في الأسبوعِ الماضي عن سيدِنا موسى عليه السلام، عن سلوكِهِ وأخلاقِه وءادابِه وكيف كان موقفُه معَ الامرأتين من مساعدتِهما بسَقْيِ غنمِهما، فبعدَ أن سقَى غنمَ المرأتينِ رجَعتَا إلى أبيهِما نبيِّ الله شعيبٍ عليه السلام وأخبرتَاه بخبرِ موسى وكيف سقَى لهما غنمَهما وأخبرتاه بقوَّتِه حيث رفعَ حجرَ البئرِ الذي يحتاجُ لعشَرةِ رجالٍ لرفعه، رفعَه موسى وحدَه بقوّته التي منّ الله عليهِ بها، فالله هو الخالقُ القادرُ هو الذي أقدرَنا على أعمالنا، فَرَفْعُ الحجَرِ الصغيرِ أوِ الكبيرِ كلُّه بخلقِ الله، فالله يقول:" واللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعْمَلُون" فما فعلَه موسى هو بخلقِ الله تعالى رَفَعَ الحجرَ الكبيرَ وسقَى غنمَ الامرأتين فأخبرتَا أباهما بفعلِه، أي بفعلِ موسى وقوّته وأخلاقِه وطلبتا منه أن يُكرمَه على هذا الصنيعِ الحسنِ معهما فَسُرَّ نبيُّ اللهِ شعيبٌ عليه السلام بحُسنِ صنيعِ موسى وبعثَ إحدَى ابنتَيه هاتَينِ لدعوته إليه فجاءتْ إلى موسى عليه السلامُ تمشي على استحياءٍ ووقارٍ وحِشمة وطلبتْ منه أن يذهبَ معها إلى أبيها ليجزيَه على عظيم صنعه معها ومع أختها وعلى سقيه غنمَهما، فقام معها موسى عليه السلام وقال لها: امشِي خَلفي وانعَتِي ليَ الطريق أي صِفي ليَ الطريق فإني أكره أنْ تصيبَ الريحُ ثيابَك فتصفَ جسدَكِ، وهذا يدلُّ على شدةِ عفتِه عليه السلام، نعم هذه هي صفةُ أنبياءِ الله تعالى الصدقُ والأمانةُ والشجاعةُ والعِفة، ليس في الأنبياءِ مَن هو رذيلٌ يختلسُ النظرَ إلى النساءِ الأجنبياتِ بشهوة، اللهُ تعالى عصمَهم وحفِظَهم من ذلك، فمشَتِ الامرأةُ  خلفَ موسى كما طلب منها، تصِفُ له الطريقَ حتى وصلَ إلى أبيها شعيبٍ عليه السلام، فلما جاءه أخبرَه بأمرِه مِن حينِ وُلِدَ والسّببِ الذي أخرجَه من أرضِ مصر، فلما سمعَ نبيُّ اللهِ شعيبٌ خبرَ موسى عليه السلام طَمْأنَهُ قائلا له: لا تخفْ نجوتَ منَ القومِ الظالمين، لأنه لا سلطانَ لفرعونَ وجُندِه في أرضِ مَدين، يقول الله تعالى في القرءان العظيم:" فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " وطلبتْ إحدى الفتاتين من والدِها شعيبٍ عليه السلام أن يتّخذَ موسى عليه السلامُ أجيرا عندَه لقوتِه وصدقِه وأمانتِه، قائلةً له :" يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ" وإنما سَمَّتْه قويًّا لرفعِه الصخرةَ العظيمةَ وحدَه عن رأسِ البئر، وسمته أمينا لأنه أمرها أن تمشيَ خلفَه عندَما جاءتْه تدعوه إلى المجيءِ إلى أبيها، وأخبرتْ أباها بما فعلَ معها عندما دعتْه إليه، فسُرَّ أبوها شعيبٌ عليه السلام لأمانةِ موسى وورعِه فما كانَ مِن شعيبٍ عليه السلام إلا أن ردَّ الإحسانِ بالإحسانِ ورغِبَ فيه وزوّجَه ابنتَه ( صَفُّورَا )، التي أحضَرَتْه على أن يرعَى له الغنمَ ثمانيَ سنين يكونُ فيها أجيرا عندَه وإن شاء يُتمِّمُها موسى عليه السلام عشرًا، ولكنَّ موسى عليه السلام أتم المدةَ كلَّها وهي عشْرٌ تَفَضُّلا منه.

إخوة الإيمان يقول الله تعالى:" هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلا الإحْسَان"، فبعدَ سماعِكم هذه القصةَ التي حصلتْ بينَ نبيِّ الله موسى عليه السلام ونبيِّ الله شعيبٍ عليه السلام خذُوا العبرةَ تَلِي العِبَرَ العظيمة منها، ومن هذه العبرِ أن شعيبًا زوَّجَ ابنتَه ممن تأكَّدَ من أمرِ دينه، وأن هذا هو الأساس، وهذا ما جاء أيضا على لسانِ خاتَمِ النبيينَ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، حيث قال:" إذا جاءَكُم مَنْ تَرْضَونَ دِيْنَهُ وخُلُقَهُ فأنْكِحُوه إلا تَفْعُلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرضِ وفسادٌ عَرِيض" أي فسادٌ كبير. رواه البيهقي.

أما اليومَ فكثيرٌ منَ الآباءِ لا ينظرونَ إلا إلى المالِ فَقَط، سَلْ أوّلا عنْ دِيْنِ هذا الشابِّ الذي جاءَ يخطِبُ ابنتَكَ أي هل هو مُتمَكِّنٌ بأمرِ الدِّين، تعلّمَ ما أوجبَ اللهُ عليه، هل يُصلِّي الصلواتِ الخَمس، هل يُراعي أمرَ الحلالِ والحرام، لِتَضَعَ ابنتَك بينَ يَدَيْ إنسانٍ يَتّقِي اللهَ ويخافُ اللهَ عزّ وجلّ، نعم يتقي اللهَ، يخافُ الله  عزّ وجلّ وهذا هو الأساس.

نسأل اللهَ تعالى حُسنَ الحالِ وحسنَ الختام، وحسنَ الاقتداءِ بالأنبياء والأولياء والصالحين، إنّه على كلِّ شيء قدير.

هذا وأستغفر الله العظيم

إنّ الحمد لله نحمدُه ونستعينه ونستهديه ونشكرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضلَّ له ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا مثيلَ له، ولا ضِدَّ ولا نِدّ له، وأشهد أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرّةَ أعينِنَا محمّدًا عبدُه ورسوله وصفيّه وحبيبه، صلى الله عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرسَلَه، الصلاةُ والسلامُ عليك يا سيِّدي يا رسول الله، الصلاةُ والسلام عليكَ يا سيِّدي يا حبيبَ الله، أنت طِبُّ القلوبِ ودواؤُها، وعافيةُ الأبدانِ وشفاؤُها، ونورُ الأبصارِ وضياؤُها، الصلاةُ والسلام عليك يا سيّدي يا علَمَ الهدى، ضاقتْ حيلتُنا وأنتَ وسيلتُنا أدرِكْنَا بإذنِ الله.

أما بعد فيا عُشّاقَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أوصي نفسي وإياكم بتقوى اللهِ العليِّ العظيم، يقول الله تعالى في القرءان الكريم:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا".

 إخوةَ الإيمان، إنَّ زيارةَ قبرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أعظَمِ القُرَبِ إلى اللهِ تعالى، ولا يُنكِرُ ذلك إلا محرومٌ بعيدٌ عنِ الخير، وقد قال عليه الصلاة والسلام:" مَن زارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لهُ شفَاعَتِي".

لِطَيبـَةَ عَرِّج إنَّ بَينَ قِبَابِهــا         حبيبًا لأدواءِ القُلوبِ طَبِيب

إذا لم تَطِبْ في طيبةٍ عندَ طَيِّبٍ           بِهِ طابَتِ الدُّنيا فأينَ تَطِيبُ

إنّ الأمةَ المحمديّةَ أجمعتْ على جوازِ زيارةِ قبرِهِ عليه الصلاةُ والسلام، واعتبروها قربةً إلى اللهِ وفضيلةً مُرَغَّبا فيها، وهذا الإمامُ المجتهدُ المُطْلَقُ تقيُّ الدِّينِ السُّبكيُّ ينقُلُ الإجماعَ على ذلك في كتابِ " شِفاءُ السَّقام"، وقد روى الطبرانيُّ والبيهقيُّ وغيرُهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:" مَنْ حَجَّ فزارَ قبري بعدَ وفاتي فكأنَّما زارَنِي في حياتي"، وروى البيهقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن مالِكِ الدَّارِ وكانَ خازنَ عُمَرَ قال: أصابَ الناسَ قحطٌ في زمانِ عمرَ فجاءَ رجلٌ إلى قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ اسْتَسْقِ لأُمَّتِكَ ( أيِ اطلُب مِنَ اللهِ أن يُنزِلَ المطر) فإنَّهم قد هَلَكُوا ( معناه قاربُوا الهلاك) فأُتيَ الرجُلُ في المنام ( أي رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في منامِه ) فقيل له أَقْرِئ عمَرَ السَّلامَ وأخبِرْه أنهم يُسقَونَ وقُل لهُ عليكَ الكَيْسَ الكيس ( معناه اجتَهد في أمرِ الأُمّة ) فأَتى الرَّجُلُ عُمَرَ فأخبَرَه، وهنا انتَبِهُوا جيِّدا إخوةَ الإيمان، فهذا الرَّجُلَ فُسِّرَ ببلالِ بنِ الحارثِ المُزَنِيِّ وهو مِنَ الصحابة، يُخبِرُ مَن؟ يخبِرُ الفاروقَ عمَرَ الذي كان معروفًا عَنهُ أنَّهُ كانَ شديدَ الإنكارِ للباطِل، أخبَرَه أنَّه ذهبَ إلى قبرِ الرسولِ عليه الصلاة والسلام وقالَ يا رسولَ اللهِ اسْتَسْقِ لأُمَّتِكَ فإنهم قد هلَكوا، وأخبَرَه ( أي أخبرَ عمرَ ) أنَّه رأى رسولَ اللهِ في المنام، وقالَ لهُ: أقِْرئ عمرَ السّلام، وأخبِرْه أنهم يُسْقَوْنَ، وقُل له عليك الكيس الكيس، فبكَى عمرُ، بَكى أميرُ المؤمنينَ عمرُ الفاروق، ولم يُنْكِرْ عليه، وقال: يا رَبِّ ما ءَالُو إلا مَا عجَزْتُ، أي لا أُقصِّرُ معَ الاستِطَاعَة.

وهذا بلالٌ مُؤذِّنُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي سكنَ بلادَ الشامِ بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، رأى في المنامِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ له: يا بلالُ ما هذهِ الجَفْوَةُ، مَضَى زمانٌ ولم نَرَكَ، فلمَّا استيقظَ مِنْ منامِه غلَبَهُ الشَّوقُ، الشّوقُ يغلِبُ بِلالا، وكمْ مِنَ الأُمّةِ اليومَ يغلِبُهُمُ الشَّوقُ لزيارةِ قبرِ رسولِ اللهِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم.

واشَوْقَاهُ إليكَ يا رسولَ الله، واشَوْقَاهُ إليك يا حبيبَ الله، واشَوْقَاهُ للوقوفِ أمامَ الحجرةِ المحمّديةِ الشّريفة، واشَوْقَاهُ لِشَمِّ الرَّوائحِ العَطِرَةِ الزَّكيّةِ الطَّيّبةِ التي تفوحُ منْ ذاكَ القبرِ الشَّريف. الشّوقُ يغلِبُ بلالا فشَدَّ رِحالَهُ وقصَدَ قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولما وصَلَ صارَ يُمَرِّغُ نَفْسَهُ بترابِ القَبرِ تبرُّكًا وكانَ ذلكَ في خلافةِ عمر، فلم يُنكرْ عليه عمرُ ولا غيرُه، فرُوِيَ أنَّه جاءَ إليه الحسَنُ والحُسينُ عليهما السلامُ فقالا له نَشْتَهِي أنْ نسمعَ أذانَك يا بلالُ فصعِدَ إلى المكانِ الذي كان يؤذنُ فيهِ في زمنِ رسولِ اللهِ وبدأَ بالأذان، فقال: الله أكبرُ الله أكبر، فارتَجَّتِ المدينة، فلما قال أشهدُ أن لا إله إلا الله، زادتْ رجّتُها، ولما قالَ أشهدُ أنَّ محمّدا رسولُ اللهِ، خرجَ الناسُ مِنْ بيوتِهم يَبْكُونَ، حتى النِّسوةُ خَرَجْنَ مِنْ بيوتهنّ، ولم يُرَ أشدُّ باكيا وباكيةً مِن ذلك اليوم، إلا اليومُ الذي ماتَ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

إخوة الإيمان، إنَّ مما يُستحبُّ للزائرِ أنْ ينويَ معَ زيارتِه صلى الله عليه وسلم التقربَ إلى الله تعالى بالمسافرةِ إلى مسجِدِهِ صلى الله عليه وسلم والصلاةِ فيه، ويُستحبُّ أن يغتسلَ قبلَ دخولِه ويلبَسَ أنظفَ ثيابِه، ويُصلِّيَ التَّحيّةَ في الرَّوضةِ أو غيرِها منَ المسجِدِ شُكْرًا للهِ تعالى على هذه النعمةِ العظيمةِ ويسألَه إتمامَ ما قصدَه وقَبولَ زيارتِه، ثم يأتي القبرَ الكريم ويستقبلُ جدارَ القبرِ ويقِفُ ناظرًا إلى أسفَلِ ما يَستقبِلُه مِنْ جدارِ القبرِ غاضَّ الطَرْفِ في مقامِ الهيبةِ والإجْلالِ فارغَ القلبِ منْ علائِقِ الدُّنيا مُستحضِرًا في قلبِه جلالةَ موقِفِه، ثم يُسَلِّمُ ولا يرفعُ صوتَه بل يقتصِدُ ويقولُ: السلامُ عليكَ يا رسولَ الله، ومِنْ أحسنِ ما يَقولُ ما رواه كثيرٌ منَ العلماءِ عنِ العُتْبِيِّ مُستَحْسِنِينَ له قال: كنتُ جالسًا عندَ قبرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فجاءَ أعرابيٌّ فقالَ السلامُ عليكَ يا رسولَ الله، سمعتُ أنَّ اللهَ يقول:" وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا". وقد جئتُكَ مُستَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُستشفِعًا بكَ إلى ربي، ثم أنشأَ يقول:

يا خيرَ مَنْ دُفِنتْ بالقـاعِ أعظُمُـهُ         فطابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القاعُ والأَكَــمُ

نَفسِـي الفِداءُ لقبرٍ أنتَ ساكِنُــهُ        فيه العفافُ وفيه الجودُ والكــرمُ

أنتَ الشفيـعُ الذي تُرجَى شفاعَتُـهُ     عندَ الصراطِ إذا ما زلَّتِ القَــدَمُ

وصـاحبـاكَ فلا أنساهمـا أبـدا       مِنِّي السلامُ عليكُم ما جَرى القَلَـمُ

قال ثم انصرفَ، فغلَبَتْنِي عينَايَ فرأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال يا عُتبيُّ الْحَقِ الأعرابيَّ وبَشِّرهُ أنّ اللهَ تعالى قد غَفَرَ له.

أيها الإخوة، إنّنا نقولُ للمسلمينَ عُمومًا ولحجَّاجِ بيتِ اللهِ خُصوصًا، عليكُم بزيارةِ قبرِه عليه الصلاةُ والسلام، والتوسُّلِ بهِ فهو وسيلتُكُم ووسيلَةُ أبيكُم ءادمَ عليه السلام إلى اللهِ تعالى، يقول الله تعالى:" يَا أيُّهَا الذِيْنَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ".

اللهمّ ارزُقْنَا زيارتَهُ وشفاعَتَهُ ورُؤيتَهُ في المنامِ وعندَ الممَاتِ يا ربَّ العالمين.

هذا وأَستغفِرُ اللهَ لي ولكم

الحمدّ لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وعلى ءاله وصحابته الغرّ الميامين، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العظيم. إخوة الإيمان والإسلام...

يقول الله تعالى:" وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {26} وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ...".

أيها المسلمون: لقد استجاب الله دعوةَ نبيِّه إبراهيمَ صلى الله عليه وسلّم وجعل الكعبةَ.. البيتَ الحرام مقصِدَ الملايين منَ المسلمين يَؤُمُّونَها كلَّ عامٍ من كلِّ فجٍّ عميق، منْ مشارقِ الأرضِ ومغاربها على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وألوانهم، لا فرق بين فقير وغني وكبير وصغير ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.. يقول الله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ".

أحباب رسول الله.. إنّ لأعمالِ الحجِّ وشعائرِه فوائدَ وحكمًا عظيمةً ومزايَا جليلةً لو أدركَ كثيرٌ منَ المسلمين مَغزاها لتسابقُوا إليها، فالحجُّ مؤتمرٌ إسلاميٌّ سَنويٌّ هائِلٌ يجتمعُ فيه مئاتُ الآلافِ منَ المسلمين، يجتمعونَ على كلمةِ " لا إلهَ إلا الله محمدٌ رسول الله".. وهناك يدعونَ ربهم وخالقَهم ويتعارفونَ ويأْتَلِفُونَ ويُصبحونَ بنعمةِ الله إخوانا، هناك في هذه الأرض المقدسة يتذكر المسلم أخاه المسلمَ وما له من حقوقٍ ويتعارفونَ ويتفاهمون ويتعاونونَ على تدبيرِ أفضلِ الخططِ ليَبلُغُوا الأهدافَ ويُحقِّقُوا الآمال ويُوحِّدُوا الصفوفَ حتى يكونوا أقوياءَ ضدَّ أعداءِ الله. وهناكَ يا إخوةَ الإسلامِ تتجلى معاني الأخُوّةِ والمساواة بين المسلمين في أجْلَى صُوَرِها، فالحجاجُ جميعُهم قد خلعُوا الملابسَ والأزياءَ المزخرفةَ ولبسوا لباسَ الإحرام الذي هو أشبَهُ ما يكونُ بأكفانِ الموتى قائلين: "لبيك اللهمّ لبيك..لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنِّعمةَ لك والملك لا شريك لك".  وهم متجرِّدُونَ منْ مباهجِ الحياةِ الدُّنيا الفانية، صغيرُهم وكبيرهم، غنيُّهم وفقيرُهم كلُّهم عندَ الله سواءٌ لا يتفاضلونَ إلا بالتَّقوى كما أخبرَنا الحبيبُ الأعظمُ المعلّمُ الأكبرُ سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم فقال: "لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ على أعْجَمِيٍّ إلا بالتَّقوَى".

والحجُّ إخوةَ الإيمانِ والإسلامِ تمرينٌ عمليٌّ للإنسانِ على الصبرِ وتحمُّلِ المشاقِّ والمصاعبِ لمواجهةِ مشاكلِ الحياةِ لنيلِ الدرجاتِ العُلَى والفوزِ بجنةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ أُعدّتْ للمتقين. فهو إذا بابٌ واسعٌ للخَيراتِ والثوابِ وتنافسٌ على فعلِ الطاعاتِ التي هي زادٌ للآخرةِ يقولُ الله تبارك وتعالى:" وَتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى".

إخوةَ الإيمانِ والإسلام فالحاجُّ عندَما يرفعُ صوتَه بالتلبيةِ قائلا: لبيك اللهم لبيك – فإنَّ هذا الموقفَ والنداءَ يُذكرُنا بيومِ القيامةِ عندما ينفُخُ إسرافيلُ عليه السلامُ بالصُّورِ وتنشقُّ القبورُ ويخرجُ الناسُ منْ قبورِهم أفواجا وهم على ثلاثةِ أصنافٍ وأقسامٍ قسم طاعمونَ كاسونَ راكبون وهمُ المسلمونَ الأتقياءُ الذين أدَّوا الواجباتِ واجتنبوا المحرمات، وقسم يكونونَ حفاةً عراةً وهمُ المسلمونَ العصاة أصحابُ الذنوبِ الكبائر.. وقسم يُحشرونَ ويُجرُّونَ على وجوهِهم إهانةً لهم وهمُ الكفارُ يقول الله تعالى:" يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ {6} فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ".

وعندما يقومُ الحاجُّ بالسعيِ بينَ الصفا والمروة يتذكرُ الحاجُّ مكةَ المكرمةَ مهبِطَ الوحيِ التي جعلَها اللهُ ءامنةً مُطمئنَّةً، فالسعيُ بين الصفا والمروة يا أخي المسلم، فيه حكمةٌ عظيمةٌ ورمزٌ لإحياءِ أثرٍ منَ الآثار القديمة المباركة، ففي هذا المكانِ كانتْ هاجرُ أمُّ إسماعيل وقد تركَهَا نبيُّ اللهِ إبراهيمُ عليه الصلاةُ والسلام معَ ولدِها إسماعيل في ذلك المكانِ المبارك منْ مكةَ بغيرِ ماءٍ فما زالتْ تتردَّدُ في هذهِ البقعةِ المباركة بحثًا عنِ الماء لها ولابنها.. بينَ الصفا والمروة متوكلةً على الله حتى كشفَ اللهُ كربَتَهَا وفرَّجَ شِدَّتَها وأخرجَ لها ماءَ زمزم الطيب المبارك، يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى:" وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا{2}وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ".

وأما الوقوفُ بعرفة ففيهِ حكمةٌ عظيمةٌ وذِكْرى جليلة فعندَما يرَى الحاجُّ الحُجَّاجَ بالآلافِ فوقَ عرفات يتذكرُ يومَ القيامةِ وما فيه منْ مواقفَ عظيمة، فالحاجُّ يرَى شدةَ ازدحامِ الناسِ على جبلِ عرفة ويسمعُ ارتفاعَ أصواتِهم بالدُّعاء للهِ الملكِ الدَّيَّان، متذللينَ خاشعينَ يرجونَ رحمتَه ويخافُون عذابَه، يدعونَ اللهَ خالقَهم ومالكَهم وهم على لغاتٍ شتى وألوانٍ وأحوالٍ مختلفة، كلُّ هذا يُذكّرُ بيومِ القيامة ومواقفِها المهيبة الهائلة حيث يقفُ الجميعُ متذللينَ مفتَقِرين لخالقِهم مالكِ الملك، الواحدِ القهّار، وفي هذا الموقفِ أيضا يتذكرُ الحاجُ اجتماعَ الأممِ معَ أبنائِهم ويتذكرُ كيفَ يفرُّ المرءُ في ذلك اليومِ من أخيه وأمِّهِ وأبيه وصاحبَتِه وبَنِيه لكلِّ امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغْنِيه، يقول تعالى:" يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ {88} إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"، ويقول تعالى:" الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ {67} يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ".

وأما رميُ الجمارِ إخوةَ الإيمانِ والإسلام، فلنَا فيهِ حكمةٌ عظيمةٌ أيضا، ففيهِ انقيادٌ وامتثالٌ لأوامرِ الله تعالى حيثُ أمرَ برميِ الجمارِ فعندَ رميِ الجمراتِ يتذكرُ الحاجُّ كيفَ ظهرَ الشيطانُ لسيِّدِنَا إبراهيمَ ليوسوس له عندَ كلِّ واحدة، فرماهُ سيدُنا إبراهيمُ صلى الله عليه وسلم بالحصى كما أمرَهُ الله، إهانةً له، فنحنُ معاشر أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم أُمرْنا بهذا الرميِ إحياءً لسُنَّةِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك رمزٌ لمخالفةِ الشيطانِ وإهانتِه، وكأن الرامي يقول في نفسِه للشيطانِ لو ظهَرْتَ لنا كمَا ظهرْتَ لإبراهيمَ لرميناكَ إهانةً لك، وليستْ هذه الأماكنُ إخوةَ الإيمان مسكنًا للشيطانِ كما يظنُّ بعضُ الناس.

وإذا ما انتقلنا بعدَ ذلك يا أخي المسلم لنتحدثَ عنِ الطَّوافِ وما فيهِ من حكمةٍ عظيمةٍ فنقولُ: إنّ الطوافَ حولَ الكعبةِ مظهرٌ منْ مظاهرِ العبوديةِ للهِ وحدَه وامتثالٌ لأمرِه، لأنَّهُ هو الذي أمرَنا بالطوافِ حولَ بيتِه المشرّف كما أمرَنا باستقبالِ القبلةِ عندَ الصلاةِ وهي الكعبة، فالطوافُ عبادَ الله أمرٌ تَعبُّديّ، والأمورُ التعبديةُ فيها إظهارُ انقيادِ العبدِ لربِّه منْ دونِ توقّفٍ على سببٍ ظاهر، وهذا جوابُ مَن يقولُ لماذا الطوافُ سبعةُ أشواطٍ وليسَ أقلَّ أو أكثر،  وفي الطوافِ أخي المسلم إظهارُ الثباتِ على طاعةِ الله كأنَّ الطائفَ يقولُ: يا رب مهما دُرنَا وأينَمَا كُنَّا نثبتُ على طاعتِك. ثم إنّ منْ حكمِ الطوافِ حولَ الكعبة، تعظيمَ هذا البيت الذي عظَّمَه اللهُ وأمرَ بتعظيمِه وهو معَ ذلك رمزٌ لجمعِ قلوبِ المسلمينَ وتوحيدِها على عبادةِ الله وحده الذي يستحقُّ العبادةَ وأما ما يفتريه أعداءُ الإسلامِ من قولهم: إنّ الإسلامَ دينُ وثنيةٍ لأنّ المسلمينَ يعبدونَ الكعبةَ عندما يطوفونَ حولها، فالردُّ على هؤلاءِ الملحدين أن نقول لهم: إن المسلمين لا يعبدونَ الكعبةَ عندما يطوفونَ حولها وإنما يعبدونَ اللهَ وحدَه خالقَ كلِّ شىءٍ لأنّ الطوافَ حول الكعبةِ امتثالٌ لأمرِ الله الذي أمرَ بالطوافِ حولها وأمرَ بتعظيمِها وجعلَها رمزًا لتوحيدِ قلوبِ المسلمين على عبادةِ الله الحيّ القيوم. وليس الطوافُ حولَ الكعبةِ على معنى أنّ الله ساكنٌ في الكعبةِ أو حالٌّ بها، لأنّ المسلمَ يعتقدُ أنّ الله سبحانه وتعالى موجودٌ بلا كيفٍ ولا مكانٍ وأنه ليس كمثلِه شىء، ليسَ ساكنًا في الكعبةِ وليس ساكنا في السماء وليس مُنحَلا في الأمكِنَةِ كلِّها بل عقيدةُ المسلمِ أنّ الله الذي خلقَ جميعَ المخلوقاتِ لا يشبهُ المخلوقات..لا يشبهُ السماءَ والأرضَ ولا يُشبهُ الإنسانَ ولا يُشبه شيئًا ليس هو جسمًا وليس هو ضوءًا وليس له صورة وهيئة وكيفية وكلُّ ما خطرَ ببالك يا أخي المسلم فالله بخلافِ ذلك..

هذه عقيدةُ المسلمِ في الإيمانِ بالله سبحانه وتعالى فاثبُتْ يا أخي المسلم عليها وتمسّكْ بهذه العقيدةِ التي كان عليها الرسولُ وأصحابُه الكرامُ تكن منَ المفلحين واللهُ يتولى هُداك.

نسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أن يجعلنَا منْ حجاجِ البيتِ الحرام ومن زوّارِ حبيبِه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومنَ التائبينَ المتّقين والهادين المهتدين إنه سميع مجيب.

هذا واستغفر الله لي ولكم.

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا ضدَّ ولا ندَّ له، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا عبده ورسوله وصفيّه وحبيبه، صلّى الله عليه وسلّم وعلى كلِّ رسول أرسله.

أما بعد عباد الله ، فإنّي أوصيكم ونفسي بتقوى الله. وأذكر لكم أنّه وبعد أن انتهى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام من بناء الكعبة أمره الله تعالى بأن ينادي في الحجِّ ، قال تعالى: {وأَذِّن في النّاسِ بالحجِّ يأتوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِيْنَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيْق" . سورة الحج/27 . فقال إبراهيم: {يا ربِّ كيفَ أُسْمِعُهُم} فقال الله له: {عليَّ البلاغ} أي أنا أُسْمِعُهُم ، (وكلام الله ليس ككلامنا فليس صوتًا ولا حرفًا ولا لغة) فنادى سيِّدُنا إبراهيمُ عليه السلام في مكانِه: "يا أيّها النّاس إنّ اللهَ كتبَ عليكُم الحجَّ" فسمع كلُّ روحٍ يحجُّ إلى يومِ القيامة صوتَ إبراهيمَ عليه السلام. (المستدرك 2/421 وقال صحيح).

ها هو موسمُ الحجِّ قد أقبلَ فاختَلَجَتْ لهُ القُلوبُ في صدورِ المؤمنين الصادقين الصالحين ، وتَهيّأ منْ تيسّرَ لهم الأمرُ لرحلةِ العمرِ لأداءِ هذه الفريضةِ المعظّمة، وزيارة تلك الرِّحاب المقدّسة التي كان فيها سيِّدُ المرسلين وخيرُ النبيين سيِّدُنا محمّد صلى الله عليه وسلم.

وبَقِيَتْ قلوبٌ يَعتَرِيْها الأَسى واللوعة ويغمرها الشوقُ والحنينُ بغيةَ السفرِ لأداءِ هذه الفريضة العظيمة في عام قادمٍ لا ندري أَيُقْبِلُ ونحن أحياءٌ أم نكونُ تحتَ أطباقِ الثرى.

ويشدُّ المؤمنونَ الرِّحالَ فلا يستبعدونَ من حبِّهم بعيدًا، عرفوا قدرَ الآخرةِ فهانَ عليهم التعبُ وطوَّعُوا أنفسَهم، خافُوا الوعيدَ فقَرُبَ عليهمُ البعيد.

عبادَ الله، ثَمّة رجالٌ قصدوا الحجّ مشيًا على الأقدام، منهم رجلٌ يقال له إبراهيم بن أدهم الذي رءاه رجل على ناقته فقال له: إلى أين يا إبراهيم ؟ قال إبراهيم: أريد الحجّ. فقال الرجل: ولكنّ الطريقَ بعيدٌ أينَ الراحلة ؟ فقال إبراهيم: لي مراكبُ كثيرةٌ ولكنّكَ لا تراها. فقالَ الرجل : أينَ هي ؟ فقال إبراهيم : إذا نزلتْ بي مصيبةٌ ركبتُ مركِبَ الصبر ، إذا نزلت بي نِعمةٌ ركبتُ مركِبَ الشّكر، وإذا نزلَ القضاءُ ركبتُ مركِبَ الرِّضا، وإذا دعتني نفسي إلى شىءٍ علِمْتُ أنه ما بقيَ من الأجلِ إلا قليل. فقال الرجل: سِرْ بإذنِ الله فوالله أنتَ الراكبُ وأنا الماشي.

هناك تَنالُ النفوسُ مطلبَها، وتجدُ الأرواحُ المشتاقة ترياقَها وبلسمَها، هناك يطوفُ الناس بالبيت العتيق، يطوفون ببيتِ الله الحرام ولسانُ حالهم يقول: يا ربُّ مهما دُرْنا واستَدَرْنا لا ملجأَ لنا إلا إليك، هناك عندما تستلمُ الحجرَ الأسودَ وتقبّلُه تستحضرُ أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قد مسّتْ شفتاهُ هذا الحجر.

هناك إذا صلّيتَ أمامَ الكعبةِ ورفعتَ رأسَك منَ السجودِ فطالعَتْكَ أنوارُ الكعبة، وتنسّمْتَ عَبَقَ شذاهَا، ستجِدُ مرّةً أُخرى شاهدًا بأنك عبدٌ لرَبِّ هذا البيت.

هناك عندما تسعى بين الصفا والمروة تستحضرُ قصّةَ سيِّدتنا هاجر وولدِها إسماعيل لَمّا تَرَكَهُما إبراهيمُ عليه السلام وكان المكان قفرًا صحراء فسَأَلَتْه مِرارًا:" يا إبراهيمُ أين تترُكُنا في هذا المكان الذي ليس فيه سَميرٌ ولا أنيسٌ" وكان يريد أن يطيع الله فيما أمره فقالت له: الله أمرك بهذا؟ فقال نعم. فقالت له بلسان اليقين:" إذًا لا يُضيِّعُنا" وأظهرَ اللهُ لها الماءَ السلسبيل العذب ماء زمزم.

وبثيابِ الإحرامِ البيضاء يزدحمُ الناس في عرفات يدعون اللهَ ويبتهلونَ له فإنه يومُ عرفة حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:" ما رؤي الشيطان أصغرَ ولا أحقرَ ولا أدحرَ ولا أغيظَ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا أنّ الرحمةَ تنْزلُ فيه فيُتجاوزُ عن الذنوب العظام" .

وبعد ذلك كلِّه لا بدّ مِن حطِّ الرِحالِ في تلك المدينة المنوّرةِ التي هي أفضلُ بلادِ الله بعد مكّة المكرّمة، إنها المدينة التي كان يقولُ فيها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:" إنّ الإيمان ليأرِزُ إلى المدينةِ كما تأرِزُ الحيّةُ إلى جُحرِها" .

إنها المدينة التي لا يدخلُها الأعورُ الدجالُ بل يكونُ على مداخلِها ملائكةٌ يمنعونَه من دخولها.

إنها المدينةُ المباركةُ لحديثِ البخاريِّ: "اللهمّ اجعَلْ بالمدينةِ ضِعفَيْ ما جعلتَ بمكّة من البركة".

وفي المدينةِ روضةٌ من رياضِ الجنةِ بينَ قبرِ ومنبرِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم. وفوق هذا كلِّه إنها المدينةُ التي ضمّتْ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، تَهفُو إليها قلوبُ الموَحِّدين وترحَلُ إليها قوافلُ المؤمنينَ شوقًا إلى حبيبِ ربِّ العالمين.

سلامُ الله يا بَدرَ البدورِ                  عليكُمْ صاحبَ القَدْرِ الكبيرِ

سلامُ الله يا هادِي فؤادِي                سلامُ اللهِ منْ قَلْبٍ كسيرِ

على نوقٍ منَ الأشواقِ أحْدُو            ألا يا نوقُ للمختارِ سِيرِي

لِرَبْعِ مدينةٍ ضاءتْ وفاحتْ              بهاالأطيابُ مِنْ أحلَى عبيرِ

نزورُ اليومَ خيرَ الناس طُرًّا              فأرفعَ منه قدرًا لنْ تزورِي

كيف لا تكونُ هذه الرحلةُ هي رحلةُ العُمْر، وراحةُ العشّاق، يسيرُ الركبُ يحدوهُ الهُيامُ ، وتجري دموعُ الحبِّ بانسجامٍ لبيتِ الله الحرامِ، لمحمّدٍ خيرِ الأنامِ بدرِ التمامِ .

هذا وأستغفر الله لي ولكم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له، وأشهد أنّ سيّدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرّة أعيننا محمّدًا عبده ورسوله وصفيّه وحبيبه، صلّى الله وسلّم عليه وعلى كلِّ رسول أرسله.

أما بعد عباد الله فإنّي أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ العظيم وبالاعتصام بحبل الله المتين عملاً بقوله تعالى:" وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"(ءال عمران 103).

إخوة الإيمان، إنّ الأمةَ المحمّديةَ اليوم تنتظرُ بشوقٍ لتشهدَ أبْهَى مظاهرِ الوحدة، حيثُ يجتمعُ المسلمونَ بأشكالهم المختلفةِ وألسنتِهم المتعدّدة تحتَ رايةِ التوحيد التي جمعتهم فوقَ أرضٍ واحدةٍ يدعونَ ربًّا واحدًا.

إنَّ موقفَ المسلمينَ على أرضِ عرفة قائلين:"لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" موقفٌ تنشدُّ له الأبصار، موقفٌ تحنُّ لهُ القلوب، موقفٌ تذرفُ له العيونُ بالدموعِ شوقًا لتلك البِقاع، شوقًا لأمِّ القرى لمكّةَ ومنى وعرفة.

" وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ" أمْرٌ بالتمسّكِ بالدِّين والوقوفِ عندَ حدودِ الدينِ والاعتصامِ بحبل الله المتين .

" ولا تَفَرَّقُوا" لأنّ في الفُرقةِ ضعفًا وفي الوحدة قوّة. ويُذكّرُكُم اللهُ بالنعمةِ العظيمةِ" واذْكُرُوا نعمةَ اللهِ عليكُم" وهي نعمةُ الإيمانِ بالله العظيم.

فلقدْ بيّن اللهُ لنا في القرءانِ أنّ صحابةَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم توحّدوا واجتمعوا على الإيمان بالله ورسوله وتآلفُوا وتآخَوا وتظلَّلُوا تحتَ رايةِ " لا إله إلا الله محمّد رسول الله " ووجّهوا أنظارَهم نحوَ هدفٍ واحدٍ وهو رفعُ هذه الراية، وتوحّدوا على دربِ التقوى وجمعهم الإخلاصُ لله والتضحيةُ لله عزّ وجلّ.

أيها الإخوة إنّ الاعتصامَ المنجي هو الاعتصامُ بكتابِ الله وسُنّةِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم. وكم هو عظيمٌ قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عندَما خطبَ في الناسِ في حجّةِ الوداع فقال:" يـا أيهـا الناس إني قد تركتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُم بهِ فلن تَضِلّوا أبـدًا كتابَ الله وسنّة نبيِّه، إنّ كلَّ مسلمٍ أخو المسلم، المسلمونَ إخوةٌ، ولا يحلُّ لامرىءٍ مِنْ مالِ أخيه إلا ما أعطاهُ عن طيبِ نفس، ولا تَظلِمُوا، ولا تَرجعُوا بعدي كفّارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعض".

يقول الله تعالى:" وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنْهَا" أنقذهم منَ النارِ بالإسلام، لأنّ من ماتَ على الإشراكِ أو على أيّ نوعٍ من أنواعِ الكفرِ كنفيِ وجودِ اللهِ أو الاستهزاءِ بالله أو بدينِ الإسلامِ أو بنبيٍّ منْ أنبياءِ اللهِ أو بملَكٍ منَ الملائكةِ يدخلُ النارَ خالدًا فيها أبدا، ولا يخرجُ منها ولا يرتاحُ من عذابها.

إخوةَ الإيمان إننا ندعو للتمسّكِ بكتابِ الله، للتمسّك بحديثِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم. لقد تفشّى وباءُ الجهلِ ومرضُ التشبّثِ بالباطلِ والزَّيغ، وءانَ الأوانُ للتشبّثِ بالعلمِ والعملِ والوسَطيةِ والاعتدال.

اللهمّ أصلح ذات بيننا، اللهمّ ألِّف بين قلوبنا يا ربَّ العالمين.

إخوةَ الإيمان، إننا (في جمعية المشاريعِ الخيريةِ الإسلامية)، في هذه الأيامِ الفضيلةِ المباركةِ نجدّدُ الدعوةَ للعلمِ والاعتدالِ والوسطيّةِ والتآخي على أساسِ الالتزامِ بحدودِ هذا الدينِ العظيم، وللتعلّمِ ومعرفةِ الإيمانِ بالله ورسولِه، ومعرفةِ الحدودِ الشرعيّةِ ليصيرَ عندَ المسلمِ الميزانُ الشرعيّ الذي به يميّزُ الطيِّبَ منَ الخبيثِ والحلالَ من الحرامِ والحقَّ منَ الباطلِ والحسنَ من القبيح.

وأُذكّرُكم إخوةَ الإيمانِ بصيام يومِ عرفة هذا اليوم الفضيل والذي يصادفُ (يومَ الأحد)، فيومُ عرفة هو أفضلُ أيامِ العام، فقد روى الترمذيُّ وغيرُه عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أفضلُ الدعاءِ يومُ عرفة وأفضلُ ما قلتُ أنا والنبيونَ من قبلي لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، لهُ الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شىءٍ قدير" .

اللهمّ أصلِحْ ذاتَ بينِنا وألّفْ بينَ قلوبِنا ووحّدْ صفوفَنا واجمعْ شملَنا وارفعْ رايتَنا إنكَ على كلِّ شىءٍ قدير.  

هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم

 

جديد الموقع New

Go to top